الملَّة الآن أو في معارك نصف الحقيقة
المولدي عزديني
(أبو ميارى)
ما الذي يحول الآن دون غالبية النخبة في البلاد العربية مانعا إياها من الذهاب إلى الموقف الثالث؟ ما الذي يحدث الآن في أرباض الملَّة؟ من يديره ومن يتولَّى مرافقة أنظمة التسويف بالحرية في هذه الأرباض؟ ما الذي يحدث الآن في بلاد المغرب العربي؟ أهو بمعزل عن كبرى رهانات الاستعمار؟ أهو مقتصر على تونس والجزائر وليبيا أساسا دون نسيان كلي لموريتانيا والمغرب الأقصى وحتى سائر الدول العربية الأخرى؟ أيطول كل العالم البشري؟ ما الذي بوسعنا انتهاجه من طرق في مثل هذه الأزمنة الموجعة؟ هل لنا أن نبكي أطفالنا الآن أم سيبكوننا غدًا؟ لكن، أليس من البديهي أن تشتغل كل الكيانات مقاوِمة فمدافعة عن نفسها؟
إنَّنا نقدِّر في الكلِّ مقاومته وحقَّه فيها. وهذا لعمري أمر جدُّ طبيعي ولا ننكره حتى على أعدائنا المناهضين لحريتنا وباسم ذات عناويننا التي أنشأناها لمسارنا فأحسنوا الاستيلاء عليها من إقليمنا. لكن، من أين لهم بهذه القدرة الهائلة على إحداث كثرة من التحويلات في مفهوم الحقيقة؟ كل حقائق الوطنية والحقيقة والحرية والتعقلية. ثمَّ ما السر في إخضاع منظومات الفساد والإفساد الحقيقةَ التاريخيةَ لاختبار يجعل منها شغَّالة بضدِّ نفسها؟ لِمَ لا تُخْتبر الحقيقة في صدقيتها الميسِّرة للحرية، وإنما في نجاعتها المعسِّرة لها؟ من ذا الذي أشار على أزيف المثقَّفين بتوجيه للحقائق حتى يُقال نصفها والحرص على إخفاء نصفها الآخر؟ ومن أين للجماعة العاقلة بالرشد والجرأة الكافيَيْن للقول والفعل بما يقلب كل أنصاف الحقائق لتُترجم في حريَّة الملَّة وكما لو كانت تاريخا جديدا نحفل به جميعًا؟ وإذا انشطرت الحقيقة بمفعول ترويضها والتنكيل بها وإعدادها في مخابر المناهضة الديمقراطية للديمقراطيين، فهل تنقسم كما قد يُخيَّل لبعضنا إلى نصفين اثنين كما في الحسبة المجرَّدة أم إلى كثرة من الأنصاف كما في المتعيّنات؟
تعلم مراكز الإسناد المادي واللامادي أنَّ اللحظة العربية الراهنة عازمة على التحرُّر. تحرُّر يعمل على ترسيم نفسه داخل سجلات التاريخ البشري الراهن. وعليه، فالحكمة لديها في كونها ما تنفكُّ موصية لوكلائها في المغرب العربي هذه الأيام بالتأقلم مع تعرُّجات الحركة التاريخية. وهنا تؤهِّلهم عبر مكاتب دراسات ودورات تدريبية وتكوينية ومنصات ترويضٍ إعلاميٍّ على المتاح من آليات الدفاع عن أنفسهم. كما سلف وقلنا، إنَّ دفاع الكائن الحي عن كل كيانه أو حتى عمَّا تبقَّى منه وأمكن له السيادة على عناصره القابلة للعتق لَهُوَ أمر تحتِّمه قوانين الحيِّ (le bios). غير أنَّ منطق العقل المستريح من كلِّ ضاغطٍ أيديولوجي دغمائي ومنحرف بوسعه المساهمة في معركة تحرير التاريخ العربي الراهن وحتى كل الإنسانية. فعناصر الاختلاف بين البشر لا تهم كثيرا في سياقات زمنية بعينها. ذلك أنَّ المعدِّل لمسارنا في هذا السياق إقامة الفرقان بين أهل الحرية وأهل الاسترقاق. وهذه من الحقائق التي لا يفسد عنَّا أهل المسوخ الثقافية العمل بها والالتزام. وتواجه هذه الحقائق عدَّة دسائس نختزلها وبكلِّ احتراز في بعض صيغ التحيُّل الآتي بسطها:
1. تحريف المنهج: ولا بدَّ من الحذر منه اعتبارا بما تمَّ في تونس. إذْ يُفترض في ساحات المعارك الكبرى أن تكون انطلاقة الفعل المقاوم على قاعدتَيْن أساسيَّتَيْن: التمييز بين العاجل والآجل. وتقديم الأوَّل على الثاني. فالأوَّل تأمين الكيان الوطني للجميع وتحريره من كل رهن استعماري. أمَّا الثاني فهو إلتفاتة الكيانات الداخلية إلى بعضها البعض بغرض التناظر المجتمعي في الإحراز على أهلية تدبير الشأن العام. ومن خلال صندوق الاقتراع.
2. الحيلولة دون توحيد صفوف كل العازمين على تحرير الدولة والمجتمع والتاريخ والإنسان (وما انتسب إليهم بالأصل والتفريع). فينبغي ألاَّ نغالط بعضنا باشتقاق الكلمات الفارزة بين الناس… مهلا ورويدا رويدا، فلا يمنح التاريخ لأبنائه إلاَّ ما أودعوا فيه من مقدِّمات… وفيما وراء بهتان العقول الجحودة للعرفان بحقائق التاريخ، فإنَّ أهل العزم يعرفون بعضهم البعض… واحدا فواحدا كيانا فكيانا. والكل يعرف الكل… المعرفة بالآخر موجودة والاعتراف به منعدم…
3. بل، قد يتعجَّب البعض فيما لو قلت: إن خلايا ما يسمَّى بأمن الدولة في كل البلاد العربية وحتى في العالم بأسره هي أكثر الكيانات معرفة بالشريف والوضيع من أبناء الوطن الواحد. أعرف أنَّني أقول نشازا في نظر البعض… لكن هذه حقيقة… وبوسعي أن أضيفها نصف سريالية بالمنطق السياسي للبعض… ما رأيكم لو تنضبط أجهزة المخابرات العربية في مثل هذه اللحظات المفصلية من التاريخ المجتمعي؟ أحسب أنَّه بوسعها تقديم القائمة الفرقانية الفارزة بين الأحرار والأنذال. وهكذا تعفينا من عذابات نحتاج أزمنتها لبناء مجتمعاتنا متحرِّرةً من كلِّ فالقٍ لأفئدتنا. فما الذي يمنع المخابرات الجزائرية اليوم من المبادرة في هذا الاتجاه؟ من منَّا يعلم أن عملاء المخابرات لا يكذبون ولا يزوِّرون متى تعلَّق الأمر بالتحري في المعلومة ورفعها إلى الهيآت العليا؟ من منَّا يعلم أنَّ المتنفذين من عصابات السياسة والمال والإدارة والإعلام هم الذين يزيِّفون المعلومات = الحقائق التي يوافي بها أعضاء أجهزة الاستخبارات قياداتهم السياسية؟ فالسياسي الجائر وبطانته والخدم المجانيون هم أصل العلَّة في الكذب والتزوير.
4. فقاعدة الفرز بين الكيانات المجتمعية تكون هاهنا بحسب قوانين الفعل التاريخي. وعلى سبيل الذكر المقصود لا الحصر، فإنَّ البعض من هذه القوانين وارد في مقولات المادية الجدلية وخاصة في شرح ماوتسي تونغ لها في كراس: في التناقض. وارد على النحو التالي: مَنْ مع مسار التحرير ومَنْ يعاديه. هذا هو الأصل في الحركة المؤسِّسة للكيان الذاتي محرَّرا من كل استعمار. وهي قوانين لا تحتاج إلى أي افتراء سخيف وجحود ومرضي بالمزاج. وبهذه الطريقة كان يمكن تأمين هيأة الغرض المذكور منذ الخطوة الأولى من المسار الثوري التونسي بالأمس أو الجزائري اليوم.
5. نصف حقيقة عربية: السيادة الوطنية للدولة والسيادة الشعبية للمجتمع. متى سنعيِّن هذا في البلاد العربية؟ ولسنا نغفل كما يدَّعي أهل المنهج الميكانيكي (وهم لا يشعرون بميكانيكيتهم) عن ضرورات الاستمرار في التعامل مع الدول الأخرى، لكن على قاعدة مبدإ المعاملة بالمثل في كلِّ المسارات الجديدة. وهذا أمر كان وما زال ممكنا ومتاحا. والاستعمار الخارجي كان وما زال سيضطر للقبول به منذ الأيام الأولى للصدمة. صدمة ما كان بوسع منهج الاستشراق التاريخي اختبارها حتى في مجرد حدوسات أو فروضات. ومأتى الصدمة كامن في إمكان مطالعة التاريخ لأغلبية الناس (من المحليين والخارجيين) حدوث أمر جلل وعلى نحوٍ فجائي. وفي الواقع لا يكون الحدث فجائيا في كليته بالنسبة للعقلاء الذين يؤلِّفون بين مناهج التفسير المختلفة. نعم حتى في عالم الفكر سوَّغ البعض لأنفسهم اضطهاد العقل حين فرزوا في المناهج بين المادي واللامادِّي واستفردوا بواحد منها دون الأخرى. فمن ذا الذي حكم علميًّا باستحالة الشميلة المنهجية؟ ولذلك، فحتى جهابذة الغرب الاستعماري كانوا يشتركون مع جهابذتنا من نخبة الملة وثقفوتها في مطلق البلاهة بعدم حسبانهم أنَّ التاريخ قد يتوفَّر على خانة خلفية من اللامتوقَّع. خانة لامرئية في الغالب… خانة هي شرط دفاعه العنيف عن نفسه متحرِّرا من كلِّ صيغ اعتصار المتحذلقين له. نعم هي الخانة التي من شأنها أن تحوز على فعالية حاسمة بما فيها من عنصر مرجرج لكل جمود عقائدي. وفضلا عن هذا نحسب أنه من الحكمة التدبيرية للفاعلين التاريخيين حسن استقبال تلك الخانة باستثمارها في الحين بدل الالتفات إلى الأدبيات النظرية للتثبُّت في مقاسات «اعوجاج التاريخ أو استقامته» ومدى تطابق السيدة الحقيقة لديهم مع ما لم يرتسمه بَعْدُ العقل الثقافي الحسير. أما العنصر الفاضح من قوى العقل البشري فسرعان ما يرتدُّ بضدِّ النزويين ليفضح هلاميتهم… هلامية النص ونشازه مع الواقع. فمن ذا الذي حكم علميًّا أن ليست النصوص النظرية من جنس الكائنات الحية؟ فمن يقتل النص ومن يحييه؟
6. لكن، ما دور الفاعل التاريخي من الساسة المتحزِّبين إن لم يكن تطويع النظري إلى الواقعي؟ أليس من البديهي ألاَّ نخشى على النظري من الانكسار؟ ببساطة لأنَّه نظري وحتى إن انكسر فلا ضرر ولا ضرار. وفي المقابل، أليس من مطلق البداهة أن نخشى على الواقعي إن هو من حلمنا بالسيادة المبكِّرة عليه تفلَّت؟ صحيح أن للتاريخ حتمياته، لكن ليس قدرا محتوما لا مردَّ لحتمياته…
7. أما اليوم فإننا ننكر على معظم الأحزاب السياسية، وباسم كل العذابات التي ألحقتها بذريتنا، ننكر عليها التراخي في تأمين الكيان الذاتي لمجتمعاتنا… يُفترض فعل هذا… والنتيجة لهذا المفترض أن يكون لدى العقلاء آلية درء الاستعمار في هذا الطور الأوَّل من البناية الجديدة. وعموما فيما لو انتهج التونسيون هذه السبيل من تأمين الكيان الذاتي، لكان الأثر إيجابيًّا جدًّا. وبعدئذ ليتفرَّغ الكل الولوع بالضجيج اليومي للعمل وفقا لقاعدة التعايش السلمي لإنشاء ركن الانتقال إلى الطور الثاني من منهجية الصراع ضدَّ مسارات الاسترقاق بكلِّ صيغها.
8. قاعدة: الاحتكام إلى منطق التداول على تدبير شؤون الدولة والمجتمع والتاريخ الحر عبر الانتخابات. وتسمى هذه الطريقة بالتنافس السياسي عبر كل الآليات المتاحة في العمل السياسي الديمقراطي. غير أنَّ ما حدث هو بضدِّ ذلك تماما… ومن غير المستبعد أن يُعاد إنتاجه في الجزائر أو السودان… وهنا أتحدَّث حصرا عن أهل المسار الثوري والتحريري. حيث اختارت معظم الكيانات السياسية والمدنية والمهنية المشكِّلة للقوة المجتمعية، العودة إلى كلاسيكيات العمل السياسي والمدني والنقابي كما كان في الحياة الجامعية إلى حدٍّ كبير. نعم لقد تمَّ هذا وما زال يحظى بالاعتراف به خيارا أساسيا، بالرغم من علم الغالبية بأن الجامعة التونسية مثلا كانت من أفضل أقاليم النضال السياسي في البلاد العربية. فما هو الخيار القاتل؟ إنَّه تقديم الإقصاء على الاعتراف و«الاستعداء الأيديولوجي» على «التنافس السياسي». فشغَّل الكلُّ الأبله بضدِّ الكلِّ ذاته ما في أفظع التحريفات اللغوية (وذات الأصل المزاجي الضال عن هدى العقل) من مقولات عنيفة. لا يوجد حسن تصريف للمقولات بحسب السياقات… علينا أن نعترف بهذه النكبة العلمية التاريخية… فكل مقولة من جهة المبدإ المطلق هي مقولة وجيهة نظريًّا. لكن، السياق هو المختبر الحقيقي لوجاهتها الفعلية… ولمَّا كان المنطق العقلي يقول: إن هذه النتيجة من تلك الأسباب، فقد لاحظنا إلى حدِّ يومنا هذا إهمال معظم المثقفين والساسة العرب لقانون السببية هذا. حيث انزاح الكل عن المُراد تاريخيًّا من قِبَلِ أهل الثورة والحقيقة والحرية. طبعا، لا أتحدَّث عن الخُدَّج المتمرِّسين للتوِّ بعالم الحياة أصلا. وأعني بالخُدَّج في هذا المقام كل مَنْ لا تعنيهم الكرامة البشرية. لقد كان المُراد استحقاقا تاريخيا للأجيال لا حق لأي كان أن يفتري فيه كما شاء ووفقا لهواه. فنحن نقيم في تونس والبلاد العربية على أرض مبللة بدماء الشهداء… كل شهداء التاريخ الحر.
9. نتيجة: هل نحن اليوم في وضعية عسرٍ مطلق حيال استحقاقاتنا التاريخية؟ فقط وللسردية: لا أحد يقوى لا قدَّر الله في مشهدية النفي المطلق المرتقب أن يهاتف السيدة الأيديولوجيا متسوِّلا فمتوسِّلا إياها المعونة والرعاية: أن اعتقيني من فضلكِ. وعسى الواحد من متحذلقينا أن يسألها: ها قد بتُّ مشرَّدا وذريتي على حافة الأرض وحدودها أبكيها، أو على حافة الله أناجيه، أو على تلال الجغرافيا منتحبا قلة حَلْفائها للافتراش المؤقَّت، أو بين متاهات التاريخ المحطِّمة لنا جميعا، أو أن نكون حفاة عراة رهن الجوع والنُّوع (العطش)… أو في الطور النهائي من الخطة: البطش الإسرائيلي ومشتقاته. بطش يومئذ بالكلِّ على قاعدة الثأر من الكلِّ: يومئذ لا فرق بين ضحيَّة وجلاَّد من المحليين. ومن سيداوم من أهل البلاهة الفكرية والجهالة بقوانين الحركة التاريخية فسيكون مصيرنا وإياه: لا أحد يملك قوت يومه ولا لحافا يغطي به ما قد يكون تبقى له من ذريته الذين لفظتهم مخيمات اللاجئين. فما قيمة الأرض المقاوِمة يومئذ وما قيمة الرئيس الممانع؟ وما قيمة دماء الشهداء في تراب أرضنا إن هو تصهين؟ أعرف جيدا أن البعض سيقول كم أنت مثالي لا تفقه في العلوم السياسية… لُطفا، لا بأس: عليكم بتعديل مقولات الاستئناس بالتاريخ عسى أن يأنس فينا صدقية لطالما رجاها منَّا… لِمَ لا ينعم التاريخ على كلِّنا بالقرابة منه؟ ومن منَّا يأمن على شخصه أو الملة بأسرها من هكذا سيناريو: قد يكون لنا من حكومة نتانياهو في القريب المنظور نصيب ما كان لعملاء سلفه أيهود باراك ليلة انسحابه الأحادي الجانب والتدبير من جنوب لبنان في 31 ماي 2000… لقد رحل وما رحلوا… عدا عُشَيْرة (10) ممَّن لا زالت صلاحيتهم تحتفظ بِرُقِيِّها على آدميتهم…
10. تحريف الحقيقة: يكون هذا في الغالب نتيجة لتحريف مناهج الصراع وابتلاع أهل الألسن الطويلة للطُّعم. أمَّا بالنسبة إلى عرب الآن، فيكاد كلُّ أهل السمو والسعادة والفخامة «يأتوننا من الخلف» فيتأخَّر استجلاب الحرس الرئاسي وإلى ما بعد فوات الأوان. وفضلا عن معاداة المجرمين من الساسة الحاكمين والمعارضين لفرحة الجزائريين باللحظة، فإنَّ معظمهم يعتزم إفساد تفتُّق التاريخ التحرري في وجه الجزائريين والسودانيين… وقد يعتزم الاستعماران ضرب الجزائر في خاصرتها المحاذية لتونس. نعم نُحرم نحن الأحرار والشرفاء من توسعة المدار الكهربي للسابع عشر (17) من ديسمبر 2010… زمن بدء تعافي التاريخ العربي… نعم، وأنا أتحدَّث عن نصف الحقيقة: لم تكن عبير موسي مخطئة حين قالت: «بيننا دم»… غير أنَّ قلب العبارة عتبة لإدراك المعنى الحق من نصف الحقيقة هذه… نعم هو دم بين السيستام و«المسهول الكبير» وخدمه من جهةٍ والأحرار بالأمس واليوم وغدا من جهةٍ أخرى…
11. ها قد جاء الدور السياسي للتصريف الديمقراطي للحقيقة في الصيغة التي تجعل منها متناسبة والوظيفة المبرمَجة من وراء تشغيلها. تحوَّلت الحقيقة إلى نصف حقيقة معنا في تونس. ولا يعني هذا كما قد يعتقد بعضهم أنَّ الحقيقة انشطرت إلى قسمين… فالنصف السياسي للفعل التاريخي النوعي لا يعني شطره الكمِّي… فالنصف أنصاف متجاورة ومترصِّدة لحركة بعضها البعض وجاهزة للفتك بكلِّ من وقع في أسر غوايتها الخطابية… وليتحرَّر من نرجو لهم التحرُّر من سذاجة العجلة في الحساب. فالحسبان أهم… والواقع أنَّ هذا الذي يتربَّص الآن بالملَّة ومصائرها نعتبره تحويلا للحقيقة ولوجهتها التاريخية وليس تحوُّلا في ماهية الحقيقة. بمعنى أنَّ الحقيقة تظلُّ متوفِّرة على ذات الصدقية المعرفية والأدب الأخلاقي والنباهة العقلية والحنين الوجداني كلَّما تعلَّق الأمر باستهلال عتبات التاريخ الحر. قلت تحويلا وليس تحوُّلا لأنَّ الفاعل في ماهية الحقيقة تهجينا لم يعد من أهل الحقيقة. ولقد سوَّغ أهل التكفير الأيديولوجي من التونسيين والمصريين والجزائريين والليبين والمغاربة والسوريين واليمنيين والسودانيين هذا الفاعل مطلق التصرُّف في الحقيقة وإعادة هندسة هيآتها… تنازلوا عنها بالمجان اللغوي في صفقة القرون وبالتدرُّج بدءًا بمقدِّماتها السودانية والسورية والعراقية والمصرية واللبنانية واليمنية… وهكذا، كم يحلو لنا الاكتفاء بالتمعُّن في صور سليلة فكتوريا الجميلة فاعلة في بلاطٍ لم يحرم منه الله مَن لم يحرمهم «زُبُرَ الحديد» الأمريكي للفتك باليمنيين.
12. ولمَّا كانت الحقيقة من إنتاج الأحرار التاريخيين وبعد أن عمَّرت في كبرى الحضارات التاريخية، ها قد تصيَّرت اليوم متاعا يفوِّت فيه البلهاء من أبناء الملَّة لمستعمِرهم وبمطلق المجان الأيديولوجي. لا عفوا، مقابل، أن يسمح لهم بأمرَيْن هما من جنس ضرورات الرضاعة عند المواليد الجدد: إنهما التسابق في التأثيم المتبادل. والحرص اليومي على احترام أَجْوف المقولات الخربة وأعنفها. ولكم اتخذ هذا التحريف كثرة من المناظر والتعليلات المباحة إعلاميًّا حسب مواثيق النزاهة الديمقراطية في عمل الخطباء.
13. حيلة موغلة في عقلانيتها: انتزاع القول في حقيقة أمورنا من أسئلة الحرية والتاريخ النقدي (قولا وفعلا) منَّا نحن أنفسنا. حيث بدأ المفسدون لكبرى استحقاقاتنا في تطبيق قانون الاستيلاء عبر صيغ الردِّ الماكرة/العقلانية في مستوى التدبير التحيُّلي. ومفاد هذا القانون مطبَّقا بضدِّنا أن بادروا بتقديم القضايا الجانبية ونصف الحقيقية على أنَّها أم المعارك التاريخية. ولكم تمَّ حثُّ المتسرِّعين على تبنيِّها. ولأترجم هذا: 1.ردُّ حقوق الإنسان إلى حق الفمينيسم (le féminisme) والجندرة مثلا وتأهيل الكل إجماعًا وجِماعًا لتخنُّثٍ مشين ذوقا وجمالا وهيأة ومادَّة. حقوق الإنسان تمَّ اختزالها في معركة المرأة مع أقرب الرجال إليها. أخوها، أبوها، ابنها، زوجها، طليقها، خطيبها. أما حارس العمارة الليلي فلا… فضلا عن معينها الثاني من المدنيين المفتَّش عنه في بوابة الماخور… هو الآخر معفى من كلِّ مؤاخذة جندرية لِقاء حسن سلوكه ومناقبه… أما مشغِّلها في شركة الخدمات المتعدِّدة فغير مدرج في قائمة المضطهدين للمرأة… نعم، هكذا تُعفى في المقابل كلُّ النظم الاستبدادية من كلِّ مؤاخذة على استرقاقها للمرأة وللأحرار في كلِّ الكون البشري.
14. نتيجة: تأمين معركة داخلية غير قابلة للتخارج بضدِّ العدو الحقيقي. فلا تهاجمه ولا تستسقيه المثول في إقليم المعركة الرئيسة… ولكم تمَّ تسويق هذا في تونس ومصر والمغرب وسوريا والسودان واليمن والعراق… أمَّا عن لبنان المختطَفة فلا نتحدَّث بسوء مسيء للممانعة المحدثة في التاريخ الإسلامي. وها قد بدأ الاشتغال اليوم في الجزائر على استئناف ذات الاسطوانة المشروخة… فربما لا زالت تحتفظ بنصف من أنصاف الحقيقة. نعم، لا بدَّ للماكرين من العمل وبمنتهى السرعة بقانون الاستباق للسيطرة على إقليم الآخر المستيقظ لتوِّه.
15. معركة الأقاليم هي الحقيقة المحض… كبرى الحقائق… أعرف أن الذين لا يميزون بين البيداغوجي والعلمي في الخطاب البشري سيقولون: يا مفتري أما علمت منذ أيام الدراسة الأولى في تونس الحديثة أن الحقيقة نسبيَّة… اللهم استر عيوبنا ولا تعري عورتنا العلمية لأصحاب المعالجة الديمقراطية للحقيقة العلمية… فحتى دمقرطة الإبستمولوجي صار متاحا في بلاد عرب الآن… فها قد تمَّ بضدِّ الملَّة كلِّها إدراج ما لا يحتاجه الأحرار أصلا، وإخراجه على أنَّه من كبرى حاجيات أهله.
أبو ميارى عزديني، صفاقس، في 05 أفريل 2019