تدوينات تونسية

بين المقهى والقمر الصناعي

فتحي الشوك
أذكر فيما أذكر أنه ذات نيسان من سنة 1985 كنت في الحاضرة مع إثنين من أصدقائي لنشارك في فعالية ضمن أنشطة نادي الشبان والعلم، هل تدرون ماذا كان برنامج الملتقى؟ تجارب لإطلاق الصواريخ وعلوم الفضاء! نعم كان ذلك منذ 34 سنة بالتمام والكمال، كان ذلك في مدينة العلوم وبحضور طلبة ومهندسون وجامعيون متميزون، لا أذكر الأسماء لكن كانوا عشرات، أطلقوا صواريخ موجهة مداها عشرات الأميال ويملكون من المؤهلات ما يمكنهم من فعل المعجزات.
أي أرض ابتلعتهم؟ كيف إنتقلوا من مرتبة علماء مفترضين إلى مجرد موظفين لتنهشهم اليروقراطية والروتين؟ كيف أجهضت ماكينة النظام الصدئة ميلاد نخبة واعدة مشحونة بالحماسة والقدرة على العطاء، ومتسلحة بكل أدوات المعرفة والعلم؟
ما أستحضره هو جدية من أتحدث عنهم وصفاتهم السلوكية، فهم منظبطون، ذوي أخلاق عالية ومتمكنون جدا من معارف مجالاتهم.
لا شك أن البعض من هذه القامات قد استفادت منهم أوربا وأمريكا، في حين إبتلعت البعض الآخر السجون والمعتقلات وحاصرتهم المطاردات في وطن يعتبر السلوك القويم تهمة إنتماء وكثرة التفكير خطر وانتهاك للخطوط الحمراء والنواميس، خصوصا إذا ما طال الصواريخ والفضاء! أما الغالبية فقد إنضموا إضطرارا إلى طوابير القطيع ليلتهمهم الروتين واللهث وراء متطلبات الحياة ويكتفون بمناقشة لقاءات الدربي حينما كانت الأفواه لا تفتح إلا لذلك إلى جانب الأكل بالطبع.
من بين متميزي تلك الحقبة كان المرحوم كارم محمود بوبكر عالم الفيزياء الذي أحدث نظرية جديدة في معادلة السريان الحراري سميت باسمه (نظرية متعددات حدود بوبكر) ومن بين من لم تنس لمساتهم في تأطير الشباب وتحفيزه على البحث وطلب العلم كان المرحوم الدكتور مصطفى رشيد التركي الذي وضع لبنات أسس إستخراج الايود من البحر والبروتينات من الضريع والسيليسيوم من الرمال، أبحاث تركت لتلقى في غياهب النسيان مع جدواها وإمكانية تحققها.
حديث يجرنا إلى قامة أخرى وهو عالم الذرة المرحوم البشير التركي أول من ترأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية سنة 1969 والذي همش وحوصر.
طاقات هدرت وتم التفريط فيها ولم يقع إستغلالها بل تم عرقلتها لتأبيد التخلف ولإثبات أننا لا نصلح إلا لاستهلاك ما ينتجه الآخرون نظريا وتطبيقيا.
ماذا لو لم يتم هذا الإجرام في حق وطننا ومستقبل أجياله؟ حينما كنا لا نختلف كثيرا على بلدان مثل الهند وكوريا الجنوبية وحينما كنا نسبق بلدان أخرى مثل أثيوبيا ورواندا.
ويستمر البعض في الترويج لمن أجرم في حق الوطن واختطفه لإشباع نرجسيته المريضة، ويستمر السحرة وكهنة معبد التخلف في ممارسة شعوذتهم وسحرهم.
هي خواطر جالت بذهني حينما شاهدت درجة الإهتمام بإطلاق أول قمر صناعي تونسي وأنا أستحضر تلك الهبة لتغطية صنع أكبر مقفول تونسي وأكبر علم تونسي مزق فيما بعد ليستعمل خرقا لمسح البلاط والبلور.
لا أدري أي مستقبل لوطن حين يتسابق خمسة وزراء لافتتاح مقهى ويتجاهلون مناسبة بمثل قيمة إطلاق قمر صناعي لأول مرة؟
قد يكون تصنيفهم لصاحب المبادرة وللوزير المشرف من أسباب برودتهم وتجاهلهم لحدث هو تاريخي بكل المقاييس، فهم رجعيون ومن غير المعقول أن يتحقق على أيديهم أي تقدم وكيف يمكنهم أن يسمحوا لهم بتحقيق بعض الإنجازات التي تحسب لهم نجاحا حتى وإن كان يشمل الجميع ويمس نفعه الجميع.
تبا للإيديولوجيا وعمى الألوان التي قتلت فينا الإنسان ودمرت الأوطان.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock