الإثنين 31 مارس 2025

الإتّحادُ ليْس بهذا القدْرِ من السُّوءِ

المنجي السعيدي
لفَتَ إنْتباهِي -وأنا أمرّ على صفحة الإتحاد العام التونسِي للشّغل- الكمُّ الفظِيع من التّعالِيقِ التي تنْدرجُ فِي خانةِ الشّتائِم والشّيْطنةِ واتّهام القيادة الحاليّة بشتّى أنْواع التّهم التِي بلغتْ في معظم الأحْيان حدَّ التّخوِين والانْخراط في إنفاذِ أجنْداتٍ خارجيّة والتّخابُرِ مع جهاتٍ أجنبيّة معادية منْ أجْلِ إرباك الانْتِقال الدّيمقراطي وإرباك المسار الثّوريّ الهشّ والارتِماء فِي أحضان” الحرسِ القديم الذي يسعى إلى استعادة المنظومة الاسْتبداديّة والدّولة الكلْيانيّة.
ومهْما يكنْ منْ حرْصِ أصحاب وجهات النّظر هذه على الظّهور بمظْهر الدّفاع عن الوطن والثّورة والقدرات الواقعيّة للبلاد ، فإنّ ما يُلْفِت النّظر هو اللغة العشْوائيّة التي تُصَاغُ في إطارها التعاليق والتّحالِيل” القشريّة” التي لا تنِمّ على أيّ قدرٍ من الدّراية أو الواقعيّة أو اسْتحْضار التّارِيخ. وقدْ بدَا جلِيًّا أنّ معظم منْ يرْكبُ سفِينة الهجوم على الإتّحاد يسْتبْطِنُ داخليًّا هاجِس الخوفِ المُبالَغِ فِيه منْ الانْقلابات والهيْمنة الاسْتبْداديّة وإمكانيّة عودة التّاريخِ إلى الخلْفِ. وقدْ أرَّقَتْ هذه النّفْسيّة شرَائح كبِيرة من النّاسِ قُبيْلَ إنجاز الإضْراب العام يوم 17 جانْفِي بلْ وبَاتوا على يقِينٍ منْ أن يوم الإضْرابِ سيكون نهاية الأمن والاسْتقْرار والنّظام (شأنُهم شأن منْ بَنَى أحلامًا خرافيّة للاسْتفادة ممّا سيحدثُ منْ فوْضى)… وأنّ الدّم سيسيل أنْهارا وأنّ مَالِك السّجون سيدِير المفْتاح ويُفتّحُ الأبْواب… ولم ينْجُ من مثْلِ هذا التّوقّع حتّى النّاطق باسْم الدّولة وراعِيها. وهذا لَعَمْرِي فهمٌ ضحْلٌ وساذِج لسُننِ التّارِيخ وسيْرُورَتِه ومقوّمات الاجْتِماع البشَرِي.
ولقدْ كانت كلّ الهجومَاتِ على الإتّحاد تسْتصْغِرُ عمْق ترسّخِ عِشْق الحرّية والدّيمقراطيّة عنْد فئات الشّعْبِ بلْ وتنْظُر إلى مكاسبِ الثّورة على أنّها قَابِلة للزّوال لأوّل هبّة رِيح أو قرَارِ إضرابٍ أو إحْبَاكِ مؤامرَةٍ. ممّا جعل الخوْف المفْرِط يهيْمِن على المواقِفِ تُجاه إصْرارِ الإتّحاد على الدّفاعِ على منْظورِيه والمدِّ ببَصرِه قِبْلة السّياسة العامّة، ليْس رفْضًا لمُتْعة الإنْتِفاع بالزّيادات فِي الأجور ولكنْ خوْفًا من انهِيار المسار الدّيمقراطي وتسلّط القدِيم على الجدِيد وأنّ الإتّحاد -بماضِيه النّضالِي (بنْ عاشور/حشّاد/عاشور)- هو مهنْدِس هذه الخطوة اللّاوطنيّة. ولئنْ تجِد تعالِيق راكبِي سفينة الهجوم على الإتّحاد بعْضَ المبرّرات الواهية في مجْملِها (مقولة: لماذا لم يفْعل الإتّحاد نفْس الشيء إبّان الفتْرة النّوفمبْرية) فإنّه من الواضِح أنّ عقْليّة عدم الثّقة في الدّولة وأجهزتِها القائمة على السّلم والأمن وعدم الاطْمِئنانِ إلى الآخرِ المخْتلِف أو المنْتهِج لبعْض الأسالِيب غيْر المعهودة سابِقًا والإبْقاء على الأسالِيب النّاعِمة في النّضال غيْرِ المُكْلِف وعدم التّماهِي مع مرْحلةِ ما بعْد الثّورة التِي أسّست منْهج الحِوار التّشاركِي الذي لا يخْلو منْ تبايُنٍ عمٍيقٍ أحيَانًا ولكنه لا ينْتهِي فِي كلّ الأحوال إلا إلى توافقات وتوحِيد وجهات النّظر قدْر الإمْكان. فعقْلِيّة الإمْساك بالبيْضة جيّدا حتّى لا تسْقط فتنكسِر، وعقليّة الخوْفِ المفْرِط على انهيار المسار الذي يولِّد الشكّ في المنظّمة الشّغيلة سلِيلة النّضال الوطنِي إبّان الاسْتعمار وشريكة النّضال السياسي أيام الاسْتِبْداد البورقيبي والإرْهاب النّوفمبْرِي والرّغْبَة الجامِحةُ فِي إنْهاء دوْرِهَا من الوجود ، والنّسيان المسْتشْرِي فينا لحْظة الاخْتِلاف الذِي يحْجُب الدّور الرّيادي للمنظّمات في درْء شبح التفاوت الطبقِي والتهْمِيش الجهوِي وسوء توزيع الثروة وخلْق التّوازن لأنّه “ما مُتِّعَ غَنِيٌّ إلّا بمَا مُنِع فقِيرٌ” … كلّ هذه العقْلِيّات والأحاسِيسُ الهُياميّة لا يمْكِن أن تعشِّش إلّا في عقولٍ ونفوسٍ لمْ تسْتوعِبْ التّحوّلات التِي حصلتْ في البلاد بعْد الثّورة وبالتّالِي فهْي تعِيش الحاضِر بعقْليّة الماضي مِمّا يوقع أصحابها فِي إثارة نعراتٍ وهجوماتٍ وشتائم مجانيّة ولا رصِيد لها بل لا جانِب أخلاقيٍّ أو واقعِيٍّ لها.
إسْتمرار الثوْرة والمسار الدّيمقراطي رهِين القبُول بتطورات الواقع والعقْل والنّفْسِ، والقبول بالآخر وعدم شيطنته أو اتهامه جزافا، والواقعيّة في التعامل مع الصّعوبات دون إحالتها إلى فكرة القضاء عليْها ونفْيِها للاسْتِراحة منْها، والاسْتعداد للتّصدّي القويّ لكل انحرافٍ به سواءً منْ طرفِ منظّمة أو حزْبٍ أو دولة. لأنّ الحفاظ على الثّورة يسْتوْجِب الشّجاعة،والشّجعان لا يرْكنُون إلى الاتّهام والسّبَابِ وسياسة النّعَام بلْ يُدِيرون معارِكهم بقوّة الحجّة وعُمْق الايمان بالقضيّة.
طبرْقة


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

نَقابِيٌّ أهَانتْه السِّيَاسَةُ

المنجي السعيدي إنّ تجْرِبة النّقابٍي “Lech walesa” الذِي سطَعَ نجْمه في بُولونْيَا (1981 ـ 1990) …

العُقولُ الجامِحَةُ، وَهِوايَةُ اِسْتنْساخ التّاريخ

المنجي السعيدي رغْم كلّ التّحوّلات ومراكمة التّجارب، ورغْم نِسَب التّعلّم المرْتفِعةِ، ورغْم الإدّعاءاتِ بإحْرازِ تطوّر …

اترك تعليق