لا استقرار بدون انتخابات… ولا تنمية بدون استقرار
محمد جلولي
وصلت تونس اليوم، في رحلتها نحو أهداف ثورتها، إلى محطة مفصلية في تاريخها المعاصر بعد أن سلكت نفقا ضيقا مظلما مليئا بالحفر والمطبات… وصلت إلى هذه المحطة متعبة منهكة وقد راكمت العديد من الأزمات والتوترات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. في هذه المحطة، وقبل مواصلة رحلتهم، أصبح من واجب كل التونسيين بدون استثناء، شيبهم وشبابهم ونخبهم وعامتهم، مراجعة ما حدث طيلة الثماني سنوات الفارطة وتحديد خياراتهم قبل الانتخابات المقبلة.
لم تكن تونس -منذ البداية- بحاجة إلى أموال وقروض ومساعدات لدعم الاقتصاد الوطني ولضمان تنمية اجتماعية عادلة، بقدر ما كانت تحتاج إلى استقرار سياسي. فتعطل المشاريع وتراجع المؤشرات الاقتصادية يعود الى عدة أسباب مرتبطة جميعها بشكل مباشر أو غير مباشر بغياب الاستقرار. لقد أثبتت التجارب أنه مهما كانت قوة البرامج وعبقرية الكفاءات القائمة على تنفيذها لن تنجح الا باستقرار سياسي.
ما حدث منذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة وحتى يومنا هذا لم يكن هينا… ثماني سنوات غاب فيها الاستقرار وانتشرت الفوضى بجميع أشكالها: عمليات إرهابية وتهريب واغتيالات سياسية واضرابات عشوائية ومطالبات نقابية وتوتر سياسي وتغيير حكومات وصراعات إيديولوجية… كل ذلك كان حائلا وسدًا منيعا أمام كل محاولات البحث عن التوازن من أجل تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية. اما اليوم فقد أصبح من الضروري استخلاص العبر والدروس والبحث عن الأسباب والمسببات التي من شأنها الدفع نحو تغير هذا الواقع المرير، ولن يتم ذلك إلا بضمان حد أدنى من الاستقرار.
لقد اختلف الباحثون في تحديد مفهوم واضح للاستقرار السياسي لكنهم اتفقوا على أنه نوع من “الاطمئنان” الاجتماعي و”الهدوء” السياسي وحالة من الاتفاق والارتياح لدي النُخب وعموم الناس على الوضع العام للمجتمع.
وهو سمة من سمات المجتمعات الديمقراطية بما تعنيه من حرية وتعددية وعدالة اجتماعية ومساواة بين الجهات والفئات وغيرها من هذه المفاهيم، الا انه يمكن تحقيق هذا الاستقرار في الأنظمة الدكتاتورية اعتمادا على قبضة أمنية محكمة. وقد عاش المجتمع التونسي هذه التجربة في فترة حكم زين العابدين بن علي حيث فرض استقرارا سياسيا مزيفا… فرضه بقوة الحديد والنار وبالتخويف والترهيب والاقصاء وبالتعتيم الإعلامي والكذب والتزييف وبشراء الذمم… أما اليوم فقد أصبحت تونس في منتصف الطريق، تخلصت من نظام دكتاتوري ولم تصل بعدُ الى ديمقراطية كاملة. مازالت في مرحلة انتقال ديمقراطي، وحتى تُنهي هذه المرحلة بالنجاح يجب تحقيق استقرار سياسي.
لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق تنمية اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية في غياب الاستقرار السياسي، فهو هدف تسعى له كل الدول دون استثناء، وتعد له الاستراتيجيات والخطط، باعتباره شرطا للنهضة والتطور وضرورة حتمية للازدهار والنماء. لذلك يجب أن يكون الاستقرار السياسي خيارا وطنيا تتبناه كل الأطراف الفاعلة في الشأن العام ويكون بمنأى عن المزايدات والمناورات السياسية التي تهدف الى تحقيق مصالح ضيقة.
في الفترة الأخيرة عَلًت أصوات تدعوا إلى تأجيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المزمع اجراؤها أواخر 2019، وتُسوق مُبرراتٍ لذلك وتحاول أن تقنع الناس أن هذه الانتخابات “مضرّة بهم”… كما برزت أطراف سياسية أخرى تعمل على تأزيم الوضع وتعكير “المزاج الاجتماعي” وتتمنى حدوث كارثة أو تدخل عسكري يحول دون اجراء هذه الانتخابات في موعدها. هم بذلك يعبرون عن فشلهم وعدم قدرتهم على الوصول الى قلوب الناس وعقولهم.
انتخابات 2019 -ويقطع النظر عن نتائجها- ستكون نجاحا للتونسيين في رحلتهم نحو الديمقراطية وهي امتحانا لمنظومة التداول السلمي على السلطة… بهذه الانتخابات يتم منح شرعية جديدة تعطي للفائزين مجالا أقوى لإنفاذ الإصلاحات الضرورية وفرض استقرار سياسي يكون بمثابة هواء نقي لإنعاش الاقتصاد الوطني.