شعوب التوحّد …

علي المسعودي
أكاد أجزم بأن التوحّد هو مرض يختص به الطب الجماعي قبل أن يكون من اختصاص عيادات الأطفال، وأنه انتقل بالعدوى من الكبار إلى الصغار، واستوطن أول ما استوطن أجساد الشعوب وليس أذهان أطفال البشر !
الشعوب العربية هي مثال صارخ على مريض التوحّد، لم يلق الرعاية اللازمة، فزادت حالته سوءا مع الأيام. !
الشعوب العربية هي المثال على اضطراب عصبي حاد، يتعامل معه طبيب غبيّ على أنه غباء حاد.
وأخيرا الشعوب العربية لم تتوارث هذا المرض المزمن، بل تلقّت حاضنته عبر التدريب والاكتساب.
لم تترك أنظمة الاستبداد ندوبا في ذاكرة الشعوب فحسب، بل تشوّها دائما في السلوك والاستجابة، حتى ظنّه البعض من جينات القدر. فمع تغييب أي لغة للتواصل عبر المنع والتجهيل، ومع إفراغ اللغة من مضمونها أو التخويف من مفرداتها، جنحت الشعوب العربية إلى طريقة بديلة في التعبير أصبحت من علامات توحّدها في مُصاب التوحّد. فالانتفاضات والثورات والاحتجاجات الغاضبة غدت سلوكا نمطيّا لشعب لم يجد أسلوبا أكثر ملاءمة لإبلاغ احتياجاته. العدوانية المفاجئة، وايذاء النفس بشكل لاواع هي أيضا سلوكات قد تبدو شاذة وعديمة النفع ولكنها تحمل رسائل فيها من ألم المعنى أكثر مما فيها من معنى الألم !.
هذه الشعوب مع الوقت، فقدت كل صلة بالواقع، واضطرب فهمها للعالم المحيط، فانغمست في عالمها الذاتي، وانصرف كل همّها إلى لعبة الغذاء مقابل (الحياة).. وكان يسعدها هذا الانغماس لولا أن مطرقة الحاكم المستبدّ ما تفتأ تعكّر هذا الصفو بكل عتوّ وحماس. مطرقة تصدّها عن نفسها بنوبات احتجاج لا تؤدي الغرض منها، فتزداد المرارة في القلوب ويزداد الالتباس.
والشعوب المتوحّدة تشابهت لديها الأيام والأعوام حتى فقدت المغزى من تتابع الزمن.. فإذا ما ثارت ثائرتها اليوم، لا تستطيع تأجيل انتظاراتها إلى الغد. فيسهل خداعها لتعود إلى عالم السبات العاطفي ولا تستثيرها من جديد إلا الحساسية المفرطة لطرق عنيف على سنديان الجسد.
هذه الشعوب المُوَحِّدَة والمتوَحِّدةَ كُتِبَ عليها ألا تتوحَّد، برغم مساحة الأحلام، إلا في أعراض المرض. ومن حسن حظها أن توحُّدها يقبل العلاج. وأن شفاءها رهين بتوفّر الأطباء.. ولكنّ نخبتنا المثقفة للأسف هي متطبّبب يقدّم وصفات المشعوذين ويزعم معرفته، باطلا، بكل الأدواء..
مصاب الشعوب الخقيقي ليس في انظمة الاستبداد، بل في النخبة التي نشأت من ريعها واكتسبت منها طبائع الاستعباد.
•••
السودان، بلد آخر ينخرط في لغة الاحتجاج، فهو إذن بلد عربيّ بامتياز.. ولكن البعض يتناسى أنه نطق بهذه اللغة مرّات قبل اليوم دون أن يفهمه من يحكم البلد. وأن الصراخ يعني أحيانا عجزا عن الكلام، أو قصورا في النطق والبيان.
والبعض يتناسى أيضا أن تلك البقعة من الأرض مختوم عليها بالشمع الأحمر، وأن كل تغيير مصيره الوأد حتى قبل أن يلد. فالمصالح الجيوستراتيجية لدول الجوار جعلت منهم رجال إطفاء لكل حرائق الأنظمة من شرم الشيخ إلى باب المندب والصومال.

Exit mobile version