تدوينات تونسية

فـنّ الركوب

علي المسعودي

كان التونسيون قبل الثورة مثل دابّة تمّ ترويضها على مدى سنين.. يركبها صاحبها فتنقاد إليه بقوة الزعيق، وأحيانا بقوّة السوط.

جاءت الثورة، فقذفت بصاحب السوط بعيدا، مثل ثور جريح يقذف مروّضا إسبانيا شديد العناد..
ومنذ ذلك الوقت، لم يعد الركوب هواية منفردة، بل فنّا تجريبيا يتربع على عرش الفنون..
ركب الجميع على الثورة أولا، ثم على النضال والدين، والسياسة والصحافة.
ركبوا على الوطن، على الوطنية والمواطنة.. وعلى العلم.
ركبوا على الدم المسفوح، وعلى التقتيل والشهادة.
ركبوا على الفساد والإفساد، على مطاردة الحيتان والقروش.. وعلى حرب معلنة لم تترك لا نارا ولا رمادا.
ركبوا على الإرهاب، على قمم جبلي سمامة والشعانبي، وعلى المسفّرين إلى حلب والباب.
ركبوا على الأحزاب، ما شبّ منها أو مازال لا يحسن الدبيب.. وعلى الرياضة المحترفة في باب سويقة وباب جديد..
ركبوا على منظمة حشّاد، على العمال والعاطلين، وعلى الهاربين في زوارق الموت خارج البلاد.
ركبوا على سمكة القاروص، وعلى الكتب السوداء والبيضاء، وبدلة الرّئيس والبرنوس..
ركبوا على سنوات الخمسين والستين، وعظمة المحرّر الزعيم.. ولم يفت بعضهم الركوب على صالح بن يوسف غريمه المغدور..
ركبوا على قطعة اللحم التي امتنعت على إمرأة فقيرة لمدة ثلاثة شهور.. على قفة المواطن، ولتر الحليب موجودا ومفقودا.. والتهريب في الحدود..
ركبوا على جسد المرأة، وجرّبوا إعادة الإرضاع.. فحجبوه وكشفوه ثم صوّروه في أسوإ الأوضاع.. على صورة عاملات الريف في أقفاص تُجرّ بالعربات، وضحكة سيدات الأعمال في قاعة مؤتمرات، على حقوق المرأة الكونية، والهوية، وعلى تقرير كوليب، وإجازة المساواة في التوريث..

إنه فن ّ واسع يا سادة.. لم يتركوا صهوة إلا وامتطوها، لغاية الفن والتجريب.. ولكن أعينهم ظلت مصوّبة نحو ذلك الثور.. الذي سقط عنه صاحبه.. تمزّقهم الرغبة الجامحة في الركوب، والخوف الطاغي من السقوط !!.

•••

أنا موظف بسيط، لا أخفي رغبة الاستمتاع بالفنون.. ولكني منذ زمن، امتنعت حتى عن ركوب سيارتي القديمة لارتفاع ثمن البنزين..


من وحي لوحة الركوب الأخير بباردو بتاريخ 22 نوفمبر 2018

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock