صالح التيزاوي
بدأ التّخطيط للهجرة مبكّرا إلى بلاد الحبشة بعد أن ضاقت مكّة على النّبيّ الكريم وأصحابه حيث اشتدّ بطش المشركين بالدّاخلين في الدّين الجديد… بطش لم يسلم منه أحد طال النّساء والرّجال غير أنّ وقعه كان أشدّ على العبيد الذين وجدوا في الإسلام أملا حقيقيّا في معانقة الحرّيّة وقد دفعوا أثمانا باهظة في سبيل ذلك. سقطت سميّة وكانت أوّل شهيدة في الإسلام، ففتحت أبواب الجنّة أمام الرّجال والنّساء وصنعت قصّة رائعة من الصّمود في جميع أطوارها.
ثمّ جاءت الهجرة الكبرى إلى المدينة المنوّرة. لئن كانت الهحرة الأولى إلى بلاد الحبشة ظرفيّة هدفها إنقاذ المستضعفين من محرقة ليس بالإمكان دفعها. أمّا الهحرة الثّانية فكانت تتنزّل في إطار تخطيط لمستقبل الدّعوة بعيدا عن غطرسة المشركين وقسوتهم والتّطلّع إلى بناء مجتمع مسلم يقوم على الحرّيّة والعدل. وظلّ النبيّ الكريم يعمل على توفير الشّروط اللازمة لإنجاح الهجرة الكبرى. فكانت بيعة العقبة الأولى والثّانية اللّتين أسفرتا عن تشكيل نواة من الرّجال والنساء من السكّان الأصليين للمدينة المنورة كانوا قد دخلوا الإسلام سرّا وعن طواعيّة وعاهدوا النبيّ الكريم على نشر الإسلام في مدينتهم تمهيدا لاستقبال رسول الإسلام وأصحابه واحتضان دعوته.
هاجر المسلمون متخفّين فرارا بدينهم من هول المحرقة فيما تأخّرت هجرة القائد ليكون آخر المهاجرين بعد أن اطمأنّ على أصحابه على عكس ما نراه في زماننا وفي أزمنة مضت حيث إنّ “الزّعيم” وقت الأزمات لا يفكّر
إلّا في خلاصه وفي تأمين رأسه قبل آلاف الرّؤوس.
بقي رسول الأسلام في مكّة حتّى يؤدّي الأمانات إلى أهلها وكلّف رفيقه في الهجرة “أبو بكر الصّدّيق” بتأمين راحلتين في غفلة من عسس قريش وكلّف الصّحابيّ الجليل “علي بن أبي طالب” وقد كان شابّا يافعا بالنّوم في فراشه لتضليل المشركين. وعلى عكس المتوقّع سلك رسول اللّه وصاحبه طريقا في غير اتّجاه المدينة للإختباء قدر ما يسمح بتيئيس المشركين من العثور عليهما. ولأنّ ذلك الأمر يحتاج إلى خبير بمسالك الصّحراء، فإنّ رسول الإسلام استعان بمشرك ليكون دليله في الرّحلة مادام الأمر لا يمسّ بجوهر الدّين وبمبادئه. ولم تكن المرأة غائبة في خطّة الهجرة، فقد تحمّلت السّيدة أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق تأمين الطّعام للنّبيّ المهاجر وصاحبه. كان رسول اللّه يدرك أنّ بعض رجال قريش بارعون في اقتفاء الأثر، لذا كلّف راعي أبي بكر بأن يسرح بأغنامه خلف الرّكب لإزالة أثر السّير. فطنة قضت على أمل المشركين في العثور عليه…
إنّه تخطيط محكم لم يترك شيئا للصّدفة على الرّغم من أنّ النبيّ المهاجر يأتيه وحي السّماء. فعل ذلك حتّى لا يعطّل المسلمون بعده العقل ويعطّلوا الأخذ بالأسباب في أمور دنياهم متّكئين على القضاء والقدر وإن فشلوا زدوا في التّعلّل به. يقول الشّاعر والمفكّر محمّد إقبال: “المؤمن الضّعيف يتعلّل بالقضاء والقدر والمؤمن القوي قضاء اللّه وقدره”.
لقد علّمنا رسول اللّه التّخطيط في كلّ شيء ولكنّنا نرفص أن نتعلّم، حتّى ساءت أحوالنا… نطلب النّجاح في الدّراسة وفي العمل من طريقة الصّدفة، نتطلّع إلى تكوين عائلة دون تخطيط، نطلب المال والثّراء دون تخطيط، نلعن الظّلم ولا نخطّط لإزاحته، نتكلّم عن العدل ولا نسعى لإقامته، نعجب لتقدّم أمم الأرض ولا نخطّط مثلها… نجاري الحياة المتغيّرة يوما بيوم… يستوي في ذلك الفرد والمجتمع والدّولة حتّى انحدرنا إلى أسوإ درجات الإنحدار.