مقالات

الدولة العميقة في تونس: حقيقة ماثلة أم وهم مخاتل ؟

نور الدين الختروشي
مع إقالة السيد لطفي براهم وزير الداخلية واتهامه من جزء كبير من النخب والرأي العام بالتخطيط لانقلاب ناعم أو مباشر على الشرعية خاصة بعد زيارته المطولة للمملكة السعودية عادت مقولة “الدولة العميقة” للتداول في فهم ما يجري في كواليس السلطة.
أذكر في صيف 2013 وخلال اعتصام باردو الشهير الذي طالب منظموه تصريحا وتلميحا “بضرورة” الإنقلاب على الشرعية وتدخل الجيش على المنوال المصري سيء الذكر، أذكر يومها وفي لقاء دوري مع قيادة حركة النهضة في إطار الإئتلاف الحزبي المناصر للشرعية أنني توجهت لرئيس حركة النهضة برجاء غريب وهو ضرورة نسيان “الدولة العميقة” في فهم المشهد ورصد ممكنات تحوله وأكدت في نلك “الأيام العصيبه” على أن من شروط التحليل السليم للمشهد هو شطب استعارة “الدولة العميقة” من مفردات تحليل وتفكيك المعادلة السياسية يومها.
يتكرر منذ إعتصام باردو صيف سنة 2013 إستدعاء إستعارة “الدولة العميقة” كلما أشتد ضغط القوى المتضررة من الثورة وقوى الردة على المسار. التقدير عندي أن هذا البراديغم الجديد في تحليل المشهد التونسي هو نفسه مصدرا لإنتاج الوعي الزائف بالمفاعيل العميقة المحركة ليوميات الصراع. ففي تونس لا توجد أصلا ما يسمى بالدولة العميقة، فالمسافة بين من يحكم وبين من يمسك بالسلطة تكاد تكون معدومة، في حين أن أول مظاهر وتعبيرات وجود الدولة العميقة هو التخارج الفاضح بين المرئي في واجهة الحكم وبين اللامرئي في بئر السلطة.
الدولة العميقة يتحدد وجودها من عدمه بأربعة شروط أساسية :
أولها وجود “عُصبة” أو جماعة ضغط متجانسة في مفاصل صنع القرار الرسمي غالبا ما تكون شرعيتها تاريخية أو تأسيسية للإجتماع السياسي الوطني فهي الحلقة الصلبة في تشكل الدولة وفي الحالة المصرية وشرعية الضباط الأحرار والحالة الجزائرية وشرعية ضباط جيش التحرير ما يفصح عن هذه الحقيقة. والشرط الثاني هو تملك تلك العصبة “لتصور موحد لحدود السلطة التي يمكن التفريط فيها لصالح من يحكم أي من يكون في واجهة الحكم من الرئيس إلى أدنى مسؤول ترابي. والشرط الثالث أن تكون تلك الجماعة أو العصبة متوافقة على رؤية ومشروع وطني وآليات تسيير السلطة.
أما الشرط الرابع أن تكون تلك “العُصبة” قادرة في أي وقت على تغيير موازين القوة في المجتمع السياسي وضبط مسار تطوره وذلك من خلال شبكة معقدة من أدوات التأثير والتوجيه والقمع إذا إستلزم الأمر للحفاظ على معادلة الساطة القائمة والتحكم في المصير العام.
خلاصة القول من السابق أن ما يسمى بالدولة العميقة يحيل على وجود جماعة تحكم في أجهزة الدولة المركزية تستمد شرعيتها من دورها الوظيفي في تدشين الإجتماع السياسي للجماعة الوطنية الحديثة تكون متجانسة ايديولوجيا أو متوافقة على رؤية ومشروع، حيث تجتمع على شبكة مصالح معقدة وممتدة بين مفاصل صنع القرار الرسمي ومنابع القدرة الإنتاجية والإقتصادية للمجتمع وقادرة في أي لحظة على تغيير وإعادة تشكيل مجتمع الحكم. وهي بالنهاية من يحدد من يحكم وكيف يحكم.
ففي المسافة بين واجهة الحكم وحقيقة من يملك السلطة تكمن الدولة العميقة.
تاريخ دولة الإستقلال في تونس أفصح عن حقيقة مغايرة لنموذج “إزدواجية مجتمع الحكم بين حكومة الظل الخفية وحكومة الواقع البارزة.
فالسلطة والحكم احتكرها الزعيم/ الأب بورقيبة وهندس هيكلها حول “الفرد الوحيد” بالتعبير الهيغلي ومنع بروز جماعات ضغط خفية في أجهزة الدولة بتحييد لمؤسسة العسكرية والتحكم في المؤسسة الأمنية وتعميق مبدأ الفصل والتنافس والمفاضلة بين الأمن العسكري والأمن المدني وهو ما جعل إمكانية السيطرة على الجهازين وتوظيفهما في أي عمل إنقلابي يكاد يكون مستحيلا وهو ما فسر اعتماد بن علي على الأمن المدني (الحرس الوطني) في انقلابه على بورقيبة كما يفسر بعض ما وقع يوم هروب المخلوع حيث توزعت المبادرة الأمنية بين الأجهزة الأمنية من حادثة المطار وواقعة ثكنة العوينة لتمنع بالنهاية تسلم الجنرال عمار والجيش لمقاليد السلطة.
جوهر دعوانا في هذا المقال أن طبيعة تشكل دولة الإستقلال في تونس وحرص بورقيبة على الطابع المدني للدولة وتوجسه من العسكريين والمدنيين منع تشكل نواة أمنية وعسكرية للسلطة تحكم من وراء ستار وتتحكم في مآلات. المصير الوطني.
هذا لا يعني عدم وجود جماعات ضغط متحكمة جزئيا في توجهات الدولة وموازين القوة في مجتمع الحكم فقد بينت السنوات السبعة بعد الثورة وجود بؤر تحكم في أجهزة الدولة مرتبطة ببارونات السوق التي تمكنت في المرحلة النوفمبرية من تأسيس حلقات وأذرعة تحكم ونفوذ في الأجهزة الأمنية والقضائية والإعلامية تعمل في عمومها بآليات تحكم ناعمة تقترب من استراتجيات المافيا ولوبيات السلطة كما هي حال أغلب الديمقراطيات في المجال الغربي. فمعلوم أن الدولة عندما تخرج من السوق تحكم أقل، ويعوضها فاعل السوق (رجل الأعمال أو المستثمر) وهذا ما يحيل على ظاهرة الدولة الصلبة وهي حالة ديناميكية متحركة يتداول على إدارتها من وراء ستار بارونات السوق وأذرعتها الضاغطة على صناع القرار ودوائر صنع وتوجيه الرأي العام وفي مقدمتها منصات الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي.
وقد إصطدمت تونس الجديدة بحقيقة الدولة الصلبة التي تتوزع مواقع النفوذ فيها بين بارونات السوق البارزين والمخفيين الذين قاوموا بشراسة ناعمة مبدأ دولة القانون والشفافية.
وصرة المعنى في تقديري أن الدولة العميقة وهمُ الحريصين على الديمقراطية في تونس الجديدة، والدولة الصلبة حقيقة ماثلة وصداع سيستمر مع تطور التجربة واستوائها على سوقها.
جريدة الرأي العام

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock