حين تضيع البوصلة وتنقلب المفاهيم !

بشير العبيدي
#أقولها_وأمضي
حين كنت في الثانوية، كان يدرّسنا أستاذ في التاريخ والجغرافيا، كثيرا ما كان يسرد علينا دروس التاريخ سردا كما هي في المقرر الرسمي، ثم يتوقف “للنقاش”، وهو في الحقيقة لم يكن نقاشا بقدر ما كانت محاولات منه لليّ عنق الأحداث التاريخية حتّى يجعلها تبدو في رؤوسنا البريئة متفقة تماما مع قوالبه الشيوعية الجاهزة التي يُؤْمِن بها.
أذكر أنني سألت ذلك (الأستاذ) مرّة عن ثلاث مسائل تاريخية حيّرت عقلي وقتها وهي : كيف لحضارة المسلمين العظيمة التي دوّخت العالم لم تستطع صدّ التتار والمغول حتى سقطت بغداد، ولم تستطع صدّ قشتالة حتى سقطت الأندلس ولم تستطع صدّ الاستعمار حتى تم احتلال العالم الإسلامي من دكار إلى مانيلا في الفلبين من طرف قطاع الطرق البحرية. لم يستطع عقلي البسيط وقتها أن يستوعب أن يتم كل ذلك بعد أن أدار المسلمون شؤون العالم القديم باقتدار رغم فترات السقوط والاستبداد. فكان جواب الأستاذ لي خلاصة الفلسفة المادية التاريخية والبنية الفوقية والبنية التحتية وعلاقات الإنتاج ونظام الإنتاج، وأدخلني من باب وأخرجني من خوخة، وما فهمت تلك الأمور حق الفهم حتى قرأت كتاب المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون وثلة من الراسخين في العلم واستوعبت دور العصبية في حضارتنا وفهمت بعض عوامل التفكك التي تنخر المجتمعات، ومنها سقوط النخب في مستنقع الولاء للاستبداد والعدو والملذات والمصالح الفئوية الضيقة وضياع الفهم وتيه المشارب الأنانية الضيقة بسبب فقدانها لبوصلة المعنى وافتراقها بموجبات السنن ونواميس العمران البشري.

ومع الكوارث التي تلت ثورات الربيع العربي، اتضحت لي الصورة تماما ورأيت بعيني ما هو بمثابة أجوبة عن أسئلتي المحيرة مما جعل الأمور في عيني أجلى من النجم القطبي في الليل الحالك. نعم تسقط بغداد وتسقط الأندلس ويُحتل العالم الإسلامي بأكمله في تلك الفترات التي أسميها (فترات اغتصاب المعنى والاعتداء عليه بالفاحشة). في فترات العدوان بالفاحشة على المعنى، يرى الناس أشياء عجيبة على شاكلة عجب الوزير بن العلقمي ! وهكذا لا يُستغرب أن يأتيك من يُلبس الطائفية الإيرانية العفنة لباس المقاومة، ويزمّل الاحتلال الروسي البغيض بقميص عثمان بن عفان، ويتدثر الوهابية المدمرة بدثار نصرة أهل السنة، ويصيّر العلمانية طريقا معبّدة للتصهين، ويبارك ذبح مئات الآلاف من البشر وتسوية مئات المدن بالأرض تحت زعم مقاومة الهيمنة الأمريكية… والأعجب أن هذا الرّهط من فاقدي الحياء والإنسانية والشرف يحدثونك بهذا وهم يمضغون العلك، أو يدخنون سجارة أو يجولون بأصابعهم في مناخيرهم ينقّونها من خرء أنوفهم.
في هذه الفترات الحزينة من التاريخ لا ينفع إلا شيء واحد : الثبات على المبدأ مهما اسودت السماء ومهما تكاثر ذباب الرذيلة الفكرية…
✍? #بشير_العبيدي | ذو القعدة 1439 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أَمَلاً |
Exit mobile version