هل هو تقصير أمنيّ؟ أم هو خوف؟ أم هو لا مبالاة؟
عبد اللّطيف درباله
كتبت أوّل أمس مقالا كان من بين النقاط الواردة فيه أنّ سوء تسليح وتجهيز قوّات الأمن التونسيّة العاديّة في العمل الأمني اليومي يجعل استعدادها وقوّتها النارية تقلّ عن تلك المتوفّرة عادة لدى الإرهابيّين..
يوم أمس.. هاجم سارق مسلّح فرعا بنكيّا بتونس العاصمة.. بقلب منطقة المنار 2 المكتظّة وذات الحركيّة العالية.. واختار بنكا بمركز تجاري على قارعة الطريق المطلّ على الساحة الرئيسيّة بالمنطقة.. بل والواقع تماما أمام مركز شرطة المكان.. على مرأى منه وفي مواجهته.. وعلى بعد أقلّ من خمسين مترا.. ونصف دقيقة مشيا..!!!
شهود العيان الذين تحدّثوا لوسائل الإعلام أكّدوا بأنّ السارق كان بمفرده..
وأنّه مسلّح بمسدّس فقط..
وأنّه غادر المكان بأمان هاربا بسيّارة لا تتضمّن لوحة أرقام..
والأهمّ أن شهود العيان أكّدوا أنّ مواطنين أعلموا مركز الأمن المقابل تماما للبنك بعمليّة السطو.. ومنهم صاحب محلّ تجاري مجاور للبنك.. وأنّ رئيس مركز الشرطة حضر.. لكن لم يقع التصدّي للسارق المسلّح عند هروبه.. خاصّة وأنّ السارق أطلق رصاصة في الهواء لتخويف سيّدة أعتقد بأنّها تضايقه بسيارتها في محاولة لمنع هروبه..!!!
يعني لو أنّ المهاجم كان إرهابيّا وليس لصّا.. وكان مسلّحا برشّاش واحد وليس مسدّسا.. لأمكن له القيام بمجزرة وقتل العشرات على مرأى ومسمع من مركز شرطة المكان وفي مواجهته.. وأخذ وقته الكافي لذلك.. وتمكّن من مغادرة المكان والفرار.. دون أن يقع التصدّي له تماما..!!
هل هو تقصير أمنيّ؟
أم هو خوف؟
أم هو لا مبالاة؟
الحقيقة أنّه قد لا يمكن لوم من يوجد في مركز الشرطة من أعوان أمن ورئيسهم.. فظروف عملهم سيّئة للغاية.. وهم مستنزفون تماما في أعمال أخرى غير الأعمال الأمنيّة الجوهريّة من نوع التصدّي للأعمال الإجراميّة والارهابيّة..
فمثلا لا يمتلك مركز الأمن عادة أكثر من سيّارة شرطة واحدة على الأغلب.. تخصّص لكلّ شيء.. من إيصال وجلب البريد الإداري والتنقّل للإدارات والأقاليم والمناطق الأمنيّة إلى التنقّل للمحاكم.. مرورا باستعمال السيّارة في الدوريّات الأمنيّة.. وإجراء المعاينات في الجرائم.. ونقل المجرمين والمتّهمين ونحوه..
أمّا عدد الأعوان في مراكز الشرطة فهو محدود جدّا وأقلّ ممّا يجب.. وهم مستنزفون في العمل الإداري مثل إصدار شهادات الإقامة والضياع وبطاقات التعريف الوطنية وبطاقة عدد 3 وجوازات السفر ونحوه..
وهم مكلّفون أيضا بمساعدة عدول التنفيذ في تنفيذ الأحكام بالقوة العامّة.. وبفتح المحاضر وإجراء الأبحاث اللاّزمة.. سواء في الشكايات الواردة مباشرة من المواطنين.. أو تلك المحالة إليهم من النيابة العمومية..
الأهمّ من كلّ ذلك أنّ مراكز الشرطة نفسها غير مسلّحة كما يجب من حيث الأسلحة كمّا وكيفا..
كما أنّ أغلب أعوان الأمن العاملين في مراكز الشرطة العادية وإن كانوا قادرين على استعمال السلاح الناري.. فإنهم لا يملكون مهارات خاصّة في إطلاق النار بسبب نقص التدريب.. حتّى أنّ الكثير منهم لم يقم بتمرين في الرماية.. ولم يطلق رصاصة حقيقيّة واحدة من مسدّس أو رشّاش منذ سنوات..!!!
لذلك فإنّه إن وجد نفسه فجأة في موقف يجبره على خوض مواجهة بالأسلحة الناريّة.. لن يشعر بأنّه مستعدّ لذلك.. ولن يكون واثقا من نفسه ومن قدرته على إصابة الهدف والانتصار في المواجهة.. وسيخاف على نفسه من الموت.. وذلك شعور طبيعي..
وتلك حقيقة إسألوا عنها أعوان الأمن الذين يشتكون من قلّة ونقص التدريب الدوري والمستمرّ على استعمال الأسلحة وإطلاق النار والرماية..
ولعلّكم تذكرون أنّه في الهجوم الإرهابي على شاطئ نزل الأمبريال بالقنطاوي في سوسة.. حضر عونا أمن إلى الشاطئ على متن قارب مطّاطي.. وقد انهار أحدهما.. وامتنع الآخر عن مواجهة المهاجم المنفرد رغم أنّه كان هو بدوره مسلّحا برشّاش..
كما تردّد الكثير من أعوان الأمن الذين حضروا للمكان أثناء إطلاق النار على التصدّي للمهاجم المنفرد.. الذي خرج وحيدا من النزل مكان الجريمة بعد انتهاء ذخيرته.. وسار مترجّلا لمسافة طويلة قبل إطلاق النار عليه من أحد أعوان الأمن..
وفي التحقيق الأمني البريطاني تمّ تسجيل تلك الملاحظات عن النقص الفادح في قدرة الأمن التونسي على التعامل مع الحادث الإرهابي..
كما تمّت معاينة نفس المشكل في التقييمات الرسميّة التونسيّة للتفاعل الأمني مع الكثير من الحوادث الإجراميّة والإرهابيّة المسلّحة..
مقاومة الإرهاب والجرائم المنظّمة لا يكون بالشعارات الجوفاء.. ولا بالتصريحات الناريّة للإعلام.. ولا بالاستعراضات التلفزيّة البلهاء.. ولا بقمع الحريات.. ولا بمنع الآلاف من السفر بتعلّة الإجراءات الوقائيّة.. ولا باعتقال الأبرياء.. ولا بتعذيب المشبوه فيهم..
وإنّما تقوم مقاومة الإرهاب على مبادئ العمل الأمني البديهيّة.. وأبسطها حسن تدريب أعوان الأمن. . ووضع برامج للتمارين الدوريّة المستمرّة للمحافظة على جاهزيّة الأعوان وتطوير قدراتهم.. وبتحفيزهم نفسيّا.. وخاصّة بتسليحهم بالأسلحة والمعدّات القويّة والمتطوّرة التي تفوق ما يتوفّر لدى الإرهابيّين والمجرمين.. وتعطي للأمنيّين الثقة في أنفسهم وفي قدراتهم..
ويأتي بعد ذلك بقيّة العمل الأمني الكبير من الاستعلامات والاستخبارات إلى تقنيات البحث والتحقيق.. والعمل الأمني الوقائي والإستباقي..