زهير إسماعيل
I. كفاحيّة القطاع
قطاع التعليم الثانوي ظاهرة نقابيّة فريدة، والقطاع جزء من الاتحاد العام التونسي للشغل بلا شكّ، ولكنّه يتميّز بخطّ كفاحي كان فيه الربط وثيقا بين المطلب الماديّ والموقف السياسي الوطني. وقد كان لثلّة من الأساتذة المناضلين وقفات عزّ لا تُنسى في ظل الدكتاتوريّة عندما صمت الجميع خوفا ووهنا. وهذه مواقف ووقفات لا تنسى رغم كثرة اللاغطين اليوم.
والأساتذة هم خريّجو الحركة الطلابيّة، قبل أن يكونوا خرّيجي الجامعة، ومعظم الناشطين النقابيين اليوم هم من مناضلي الحركة الطلابيّة لما كانت في أوجها في الثمانينيّات، ونجحت في جعل الجامعة “قلعة محرّرة” من الدكتاتوريّٰة. وحتّى حينما عرفت الجامعة حصارا في التسعينيات تواصل الحد الأدنى من حضورها، فلا أقلّ من تذكير بطبيعة المرحلة وحقيقة النظام ودور الحركة الطلابيّة.
ورغم اختلاف أساتذة القطاع في مشاربهم الإيديولوجيّة واتجاهاتهم السياسبة فإنّهم برهنوا عن ممارسة نضاليّة موحّدة صار معها القطاع الثابت الاهم في بحر من المتغيّرات، بما ذلك الاتحاد الذي ربطته بالقطاع علاقة وصل وفصل بحسب المتغيّرات السياسيّة وأهمّها “متغيّر النظام” قبل 2011 و”متغيّر الثورة” بعده.
سأميّز بين القطاع والنقابة العامة والمركزية النقابيّة، وهو تمييز وظيفي، لأنّ هذه المستويات الثلاثة ستعيد اكتشاف بعضها البعض، في إطار الاتحاد، تحت تأثير السياق الجديد العاصف. فقيادة الاتحاد ستضطرّ إلى بناء علاقة جديدة بالقطاع، وكذلك النقابة العامة رغم أنّها منتخبة وممثلة ولكنها مدعوَّة، بعد الرهان الأخير، إلى تقييم جدّي لقراراتها الأخيرة وللتحرك برمته بغاية بناء معادلة جديدة تكون فيها وحدة القطاع ومصالحه ومشاركته المباشرة في المواقف الكبرى مرتكزها الأساسي في علاقتها بالقطاع بالمركزيّة النقابيّة. ذلك أن المركزيّة النقابيّة نفسها تتحرّك ضمن متغيرات يتداخل فيها النقابي بالسياسي (تتقدم في فرغ المعارضة الضعيفة)، في ظل “الأزمة” الأخيرة مع الحكومة، ولم تستقرّ عند “سياسة” معلومة وموقع محدّد، منذ انتخابات 2014، وهذا شأن أغلب الفاعلين ولاسيما المجتمعين حول وثيقة قرطاج.
تمثال أبي الهول ( جسم أسد برأس إنسان) يلخص هيئة آلاتحاد: جسم نقابة برأس حزب.
الاتحاد بعد الإضراب الأخير صار أضعف، قيادة النقابة العامة قد تكون كبش فداء، وأهمّ مكسب للقطاع في أن يخرج موحَّدا. سنتحدّٰث عن الاتحاد قبل إضراب الثانوي وبعده، سيكون لما حدث ما بعده.” المكينة الرحى” صارت من الماضي.
مساندتي المطلقة للقطاع الذي انتسبت إليه 14 سنة سواء باسم “العصبية القطاعيّة” أو باسم “شرعيّة المطالب”، وللعاطفة نصيبها أيضا. فضلا عن كونه قطاعا حيويا واعدا وازنا صعب المراس على درجة عالية من التسيس والوعي المواطني.
II. أزمة العبور إلى الليبرالية
ما عرفه قطاع التعليم وما يعرفه الاتحاد، إلى جانب ظواهر أخرى نراها تعبيرا مهما عن أزمة العبور إلى “الليبراليّة”، ومن المفارقات أنّٰ النخبة التونسية تعيش “عقدة الليبراليّة” ( تعتبرها تهمة) دون أن تكون اشتراكيّة، ثم إنًّ ما عرفته بلادنا منذ الاستقلال لم يكن رأسماليّة بقدرما هي “رأسماليّة زبونيّة” توضّحت بعد محاولة 62 التصحيحية، وحوَّلها بن علي إلى مافيا عائلية نافذة.
بلادنا تحتاج إلى هدنة اجتماعية ومشترك وطني واستقرار حكومي تضمن تدفق المستثمرين واستئناف حركة الإنتاج مع إصلاحيْن إداري وجبائي…حتى لا نبقى نتعارك على توزيع الفقر. ونرى الحكم المحلّٰي والديمقراطيّة التشاركيّة جزءا من هذه “الليبرالية” الموعودة.
وكنا نعيش توترا بين “ديمقراطية فساد” وديمقراطيّة رشيدة” نعيش توترا بين “ليبرالية هجينة” تُملى في ظل ما تعرفه البلاد من أزمة مركبة و”ليبرالية وطنيّة” تكون فيها الملكية “وظيفة اجتماعية” والرأسمال وطنيا تحرر بواسطته طاقات الإنتاج لمراكمة الثروة.
وهذه ليست “اللبرالية” التي تعتبرها بعض الأدبيات الماركسية (العروي) ضرورة لعلاقات اشتراكية أرقى، وإنّٰما هي ليبرالية سليلة ما نسميّه بـ”الجماعيّة “، وهي أن يعيش الناس العدل والرفاه من خلال ثقافتهم الوطنيّة وتقاليدهم المحلية. فـ”الليبرالية” هنا هي “الجماعيّٰة”. وهو الاتجاه العام الذي تعرفه الدول، في أوروربا خاصة، سواء التي خرجت من تجارب “اشتراكية” مهمتها توزيع الفقر أو تجارب “رأسماليّة” مهمتها “عولمة رس المال”.
المشهد الاقتصادي العالمي، ماضيا وحاضرا، يتلخّص في العلاقة التي نقيمها بين السياسة والسوق، في عصر الإيديولوجيات الكبرى واليوتوبيا كانت السياسة توجّه السوق واليوم صارت للسوق الغلبة للسوق وهذا معنى من معاني العولمة. ومع صعود “الأنظمة القومية المارقة” بقيادات قومية مارقة (ترمب، بوتين)، صار المشروع الإنساني المضاد هو أن تكون الأخلاق هي اللحام الذي يشد السوق إلى السياسة، وهذا أفق من آفاق “الجماعية”.
الاتحاد، والحكومة، ومنظومة الحكم (تشترك في الفساد وقد تختلف في نسبه)، واختلال توازن المشهد السياسي تمثل جميعها عوائق العبور إلى الليبرالية.