أقنعونا أنه خالد وأن الشعب زائل، يا للعجوز البائس
كمال الشارني
في ذاكرتي، منذ قرابة نصف قرن، يقترن ذكر بورقيبة بالقداسة والخوارق والطائرات المحلقة في سماء القرى الغارقة بالفيضانات وأوبئة الطفولة والفقر والتعاضد وتهم اليوسفية وأعداء الوطن، رغم ذلك البؤس كان على أحد ما أن يصرخ فينا لكي نردد “يحيا بورقيبا”، لأنهم جعلونا نعتقد في طفولتنا أن بورقيبة لا يفعلها مثلنا، لا يذهب إلى بيت الراحة لأن الله أعفاه من ذلك حين جعله مجاهدا أكبر، أكثرنا جرأة كان يعتقد أنه لا يذهب إلى بيت الراحة إلا مرة في الأسبوع في مرحاض من الذهب الخالص يليق بزعامته الخرافية.
رأيت بورقيبة رؤي العين في سن الثامنة، سلمنا جوائز مدرسية في قرية أطفاله التي اخترعها لمن لا آباء لهم، ما أذكره هو الضوء المبهر في المنصة الملكية لطفل تربى على ضوء القازة، رجل عجوز شاحب اللون شديد البياض كأن وجهه من الشمع، يمسك عصا مذهبة، يهتم بمن يقدمني إليه ولا ينظر إلي، أنا كنت مشغولا بمصير أبي الذي عزلوني عنه وأخذوه بعنف بعيدا، بعدها بأعوام،أتيح لي أن أقترب من قصره في مدينة الكاف، لم يكن محروسا بشكل جيد، وكان في مقدورنا نحن الأطفال أن نتسلل إليه صباحا بسهولة من الجهة العلوية ونراقبه بخبث بين أشجار الصنوبر وهو يجر نفسه وقدميه الثقيلتين لابسا رداء الحمام المخطط وجوارب بيضاء طويلة وخفين أسودين، “يا للعجوز البائس” الوحيد، أحدنا زعم لنا أنه نجح في التسلل إلى مائدته المفضلة في حديقة القصر وشرب كأس العصير دفعة واحدة، ولما رأى أنه لا أحد فطن له، سرق كل الفناجين الرئاسية فوق الطاولة، وأتذكر مرة أنه نظر إلى حيث نختبئ فملئنا رعبا، لكنه لم يصرخ ولم يدع الحراس بل حيانا بحركة آلية بطيئة من يده.
بعد ذلك، كانت توجيهاته المملة في التلفاز شيئا باعثا على الفوضى والكره له وللسلطة التي جاءت به ولمن جاء معه، نقدها علنا جريمة، رفضها يعتبر تمردا، لذلك تمردنا عليه، تمردنا على تعفنه المديد في السلطة بلا أمل، إنما، لم نجرؤ أبدا على السؤال حول طبيعة علاقته بالمستعمر، أولا: كان مجرد التفكير في مراجعة قصة جهاده الأكبر انتحارا، ثانيا، لقد دمروا كل ما له علاقة بالسؤال، ثالثا، كنا مشغولين بانتظار رحيله فأجلنا كل شيء إلى ما بعد المرور الموالي لمذنب هالي بالأرض، فقد أقنعونا حقا أنه خالد وأن الشعب زائل، إذ لا شيء أكثر دمارا من ذلك.