محمد القرماسي
قد يكون من السهل الإجابة بأحد الخيارين، وقد يكون في كلا الخيارين، ولدى مناصري الحكمين مسوغات ووقائع تثبت وتدعم تبنى أحدهما. ولكن كلما ابتعد القارئ والمشاهد للوضع العام في تونس عن الاصطفاف المسبق والانتماء السياسي والأديولوجي وتبنى موقفا بقدر كبير من الحياد، سوف يصعب التسليم بأن الحكم الموضوعي عن النموذج التونسي للانتقال الديمقراطي هو بهذا التمايز والوضوح كما يبدو في الثنائية موضوع السؤال.
إن اكبر تناقض يعترضنا مباشرة بمجرد التفكير في الوضع العام للشأن التونسي بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية، هو تضاد بين موقفين يتبناهما كثير من التونسيين، بل ويراوح الكثيرون بينهما حسب ما يطرأ من أحداث أو ما يتغير من توازنات ويتحقق من توافقات.
فيختصر الموقف الأول في تمجيد التجربة التونسية وما آلت إليه الثورة من بناء للمؤسسات والهيئات، وتواتر العمليات الانتخابية للسلط السياسية والقضائية وحتى في مكونات المجتمع المدني، وغيرها من المحطات والمؤشرات التي تدل على نضج وتطور في الحياة السياسية التونسية. و يزداد هذا الموقف رسوخا كلما وضعت التجربة التونسية في مقارنة مع تجارب وأوضاع في دول مجاورة أو مشابهة. كما يستطيع الناس عامة وخاصة استشعار الهامش الكبير للحريات في التعبير والنقد وكشف كل الملفات إعلاميا واجتماعيا بمشاركة الوسائل الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي…
هذا المنجز، وهذا المنسوب المرتفع نسبيا للحريات، يراه البعض أساسيا وجوهريا أو هو القاعدة التي يبنى عليها المنجز في القطاعات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية وغيرها بل لعل الست سنوات هي حيز زمني قليل لإتمام هذا البناء السياسي واستقرار المؤسسات والهيئات ضمنه.
أما الموقف المقابل فينطلق من قاعدة التدهور الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية كمؤشر على فشل الثورة والمسار الذي تلاها باعتبار الحيثيات الواقعية التي يعاني منها المواطن فقرا واحتياجا وبطالة… تزداد مستوياتها وتتعمق آثارها على فئات عديدة من المجتمع.
غير أن القياس وآليات التقييم التي يعتمدها للوضع الحالي تقلب المعادلة، فكان ما ينتظر من الثورة والانتقال من نظام استبدادي تسلطي إلى نظام ديمقراطي عادل، كان يفترض فيه البداية بالوضع الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وتوفير مواطن الشغل والاستثمارات…
أليست الفوضى التي عقبت الثورة وأحداثها هي نتيجة منطقية لسقوط نظام سياسي بكل اذرعه ووسائل تحكمه ومنها الاقتصاد ومراكز القوى في مختلف القطاعات ؟ هل يجوز اعتبار مستويات الفقر والبطالة وغياب التوازن بين الجهات والإقصاء والظلم لفئات كثيرة من المجتمع، مهما تعمقت بعد الثورة، هي نتيجة حتمية وبشكل قاطع لأحداث الثورة وتصرف الدولة في السنوات الستة الأخيرة ؟
كل التساؤلات حول الوضع التونسي بعد الثورة، وكل مشاعر الغضب والنقمة والترذيل التي تصب على الثورة ومن يناصرها.. يعيدنا إلى مربع قديم وسؤال محرج جدا وهو: هل كان للتونسيين، شعب وسياسيين وحقوقيين وغيرهم أن يحققوا الإصلاح والانتقال من الاستبداد الى الحرية والمشاركة بدون انهيار الدولة وأجهزتها واقتصادها ؟؟؟
أليست 18 اكتوبر حلما جميلا لعله أكثر واقعية وقابلية للتحقق من الثورة التي كان يمكن ان تنزلق فيها البلاد إلى مآلات مجاورة مفزعة مدمرة؟؟؟
أما ونحن هنا الآن.. ووضع بلادنا أفضل من بلدان وصلت إلى احتراب الفرقاء فيها ويروننا ناجين ناجحين، وفينا من يؤمن وما يزال بالتعايش وإمكانية الإصلاح الداخلي المتدرج، أليس من الحكمة أن نستخلص دروس الماضي التاريخي والحاضر الجغرافي فنستحضر حركة 18 اكتوبر كباعث للأمل من جديد بعد أن كادت أحلام الثورة تتبخر ؟؟؟
فالتعافي أو التعفن في الأوضاع الإنسانية وحياة الشعوب قرار يتخذه الخاصة والنخبة ويحشدون له العوام . أما في تونس اليوم فالحشد يتجه كل الاتجاهات إلا نحو خيار وطني كالذي جمع قوى 18 اكتوبر 2005.