الدولة، حين تحترم نفسها وتحترم مواطنيها…
زبير المولهي
رغم بعض الاختلالات من حين لآخر، ورغم ثقل نظامها البيروقراطي، فإنّ الإدارة الفرنسية تبقى إدارة محايدة وفعّالة، تعامل المواطنين والمقيمين على أساس المساواة والموضوعية واحترام الحقوق. ذلك أنّ النظام البيروقراطي، رغم ما يتّسم به من ثقل وبطء في التنفيذ وبعض الروتينية، يُعدّ (منذ بروز نظرية البيروقراطية في أواخر القرن التاسع عشر على يد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر) من أفضل النظم الإدارية وأكثرها حيادية وخدمة لمصالح المواطنين واحتراما لحقوقهم.
أردت أن أروي لكم قصّة إدارية حصلت لي مؤخّرا في باريس في مجال مراقبة المرور تُبيّن وتشخّص ما قلته في احترام الإدارة، وبالتالي الدولة، نفسها أوّلا ثمّ مواطنيها، كما تُبيّن اعترافها بالخطأ والعمل على إصلاحه.
عادة ما أستعمل الطريق السيّارة أ3 (Autoroute A3)، ومنذ أشهر قليلة بدأت إدارة الطرقات في إدخال بعض التحسينات على مستوى ظروف السلامة المرتبطة بجزء من الطريق السيارة على مستوى رومانفيل (Romainville) في اتجاه باريس.
وضعت شرطة المرور رادارًا ثابتًا وحدّدت السرعة بإنزالها من 90 كلم في الساعة إلى 70 كلم/س… لكن ما قامت به كان يشوبه خطآن اثنان مخالفان للقوانين الفرنسية: الخطأ الأوّل أنّ الرادار كان مخفيّا في مدخل صغير في الطريق السيارة وكان أبيض اللون بحيث لا يُرى من طرف السائقين. والخطأ الثاني تمثّل في عدم وضع شارة مرور كبيرة تُعلم السائقين بوجود رادار ثابت يسجّل مخالفات تجاوز السرعة المحدّدة (وهذا يفرضه القانون).
في نهاية شهر جوان وصلني مَحضرا جلسة (PV) من إدارة شرطة المرور تعلمني فيهما بتجاوزي السرعة المحدّدة (90 كلم/س في الأوّل و85 كلم/س في الثاني) وتحدّد لي خطيّة ماليّة بـ68 يورو لكلّ منهما وبخصم نقطة من نقاط رخصة السياقة على كلّ مخالفة. اغتظت وغضبت وقرّرت أن أراسل إدارة الشرطة وأن أقدّم طعنًا في القرار على اعتبار المخالفات القانونية التي ذكرتها آنفًا. كنت مشغولا جدّا آنذاك بالامتحانات والتصليح والاجتماعات ومشاغل أخرى فتراخيت وأجّلت الموضوع عدّة مرّات حتّى نسيت المسألة… وفاتت المدّة القانونية للطعن وأنا لم أقم بذلك…
لكن ما راعني إلاّ أن تصلني رسالتان نهاية الأسبوع الماضي من نفس الإدارة تعلمني في كلّ واحدة منهما أنّه “على إثر الطعن الذي تقدّمتم به ضدّ المخالفة فإنّنا نعلمكم أنّه وقع إلغاء محضر الجلسة وسيقع ردّ النقاط التي سُحبت من حساب رخصة سياقتكم”…
في الأوّل بُهتت وقلت في نفسي “هل قمت بذلك ونسيت ؟!”… لكنّي سرعان ما فهمت الأمر وهو أنّ شخصًا آخر (وربّما أشخاص كُثر) قام بالطعن ولم يتراخى مثلي 🙂 … فما كان من الإدارة إلاّ أن اعترفت بخطئها في مخالفة القانون واستدركت الأمر بإصلاح ما صدر منها… ليس فقط لصالح الطّاعن (أو الطاعنين) ولكن لصالح كلّ “المتضرّرين” من مخالفتها للقانون، وهم بالتأكيد كثيرون (لأنّه وإلى الآن وحتّى بعد أن تداركت الإدارة ووضعت شارة المرور) فما زالت أضواء الرادار “تضرب” مرّات عدّة كلّما مررت من هناك (وأنا أمرّ تحت سرعة الـ70 كلم/س بسلام هههههه)…
هذه هي الإدارة التي تحترم نفسها وتحترم المواطنين والمستعملين وتسعى لتطبيق القانون حتّى على نفسها…
هل يجوز لنا في تونس أن نحلم يومًا ما بإدارة محايدة نزيهة تعامل المواطنين على قدم المساواة وتحترمهم وتعترف بأخطائها إن وقعت وتسعى لجبر الأضرار وإرجاع الحقوق لأصحابها ؟!…