علمانيّون ليسوا كالعلمانيين وعلمانيّة فريدة في بابها
صالح التيزاوي
اقترنت العلمانيّة في مواطن نشأتها بتخمة عجيبة في الحقوق وفي الحرّيات وبتنوّع في الإبداع الإنساني وبوفرة لافتة في المصانع وفي الرّفاه الإجتماعي. أمّا عندنا فقد اقترنت بالفقر وبقهر الإنسان وفساد الحكم. في البلاد التي تعتبر مهد العلمانيّة صحيح أن الدّولة تفصل بين الدّين والسّياسة ولكنّها لا تضطهد المتديّنين أمّا في بلادنا فقد اقترنت العلمانية بالسّجون والمعتقلات. لم نسمع في بلاد غربيّة تطبّق العلمانيّة أنّ حاكما أبّد نفسه في الحكم على غير إرادة الشّعب.
أمًا في بلاد العرب فالحاكم يحكم مدى الحياة. ولا يترك الحكم إلّا أن يخلعه موت أو ثورة أو دبّابة. لقد تعاقبت أجيال وراء أجيال في بلاد العرب ولم نر حاكما عربيّا يخرج من الحكم بطريقة ديمقراطيّة باستثناء ما حدث في تونس بفضل ثورة الحرّيّة والكرامة التي جعلت من تونس بلدا ديمقراطيّا يعرف الحاكم مدة حكمه وموعد خروجه من الحكم فكان الدّكتور المنصف المرزوقي أوّل رئيس عربي يدرك الرّئاسة ويتركها بمقتضى انتخابات شعبيّة تشرف عليها هيئة مستقلّة.
العلماني في مواطن نشاة العلمانيّة شخص يعرف باحترام الحقوق والحرّيّات ومعتقدات النّاس وأفكارهم أمّا العلماني في بلادنا فإنّه يعبّر عن علمانيته بازدراء الدّين والجراة على هويّة المجتمع وقيمه ووصف من يتمسّك بها بالتّخلّف، حتّى يقنع الآخرين بأنّه مختلف. ولا يرى مانعا أن يعمل مخبرا لدى سلطة الإستبداد يكيد عندها لمن اعتبرهم يمثّلون الماضي فتسخّره السّلطة للتجسّس عليهم: كم صلّوا من ركعة؟ وماذا قال الإمام في خطبته؟ وترفع التّقارير إلى”من يهمّه الأمر” ليعتقل أو يفعل بمخالفيه ما يشاء.
في بلاد العلمانيّة لا أحد يمتدح الإنقلابات العسكريّة أو يحرّض عليها أمّا في بلادنا فإنّّ من يدّعون العلمانيّة يشدّون الرّحال إلى قاتل الأطفال في سوريا ليلتقطوا معه الصّور ويستنسخون التّجارب الإنقلابيّة لتخريب الحرّيّة مستفيدين من مناخ الحرّيّة التي أتاحتها الثّورة. مازال الفرنسيون إلى اليوم يباهون بثورتهم وبما حملته من قيم إنسانيّة غيّرت حياتهم وأخرجتهم من عصر الظّلام إلى عصر الأنوار. أمّا في بلادنا فما إن اندلعت الثورات العربيّة على نظم الفساد والإستبداد حتّى انقلب عليها أدعياء العلمانيّة وناصبوها العداء وعدّوها “مؤامرة” وحمّلوها كلّ مآسي
الوطن.
العلمانيون في بلاد العلمانية يعيشون بالحرّيّة ولا يقايضونها بثمن ولا يتنازلون عنها مهما كان الثّمن. أمّا وكلاء الإستعمار في بلادنا فعلمانيتهم لا تتجاوز الشّعار ويسترزقون منها. لذا فإنّهم لم يتردّدوا في الإنقلاب على الثّورات العربيّة وقطع الطّريق على التّنمية وتأزيم الأوضاع لأنّ مصالحهم ارتبطت بالفساد. الثّورة الفرنسيّة عندهم حدث إنساني والثّورة اللّينينيّة الستالينيّة حدث كوني، أمّا الثّورات العربيّة فهي “مؤامرة”. واصبحوا أذرعا ومليشيات للثّورة المضادّة. تعلّمنا على أيدي أنصاف العلمانيين في بلادنا: في مدارسهم وفي إعلامهم وفي أعمالهم الفنّيّة، أنّ الدّين لا شأن له بالسّياسة لأنّه إن تدخّل فيها أفسدها، فلماذا يسمحون لأنفسهم بالتّدخّل في قضايا الدّين بطرق فجّة ووقحة ؟ يفرضون على النّاس خطابا كهنوتيّا في المساجد ويسمحون لأنفسهم بتغيير أحكام الشّرع كما في النّظام البديع للمواريث ويجعلون من افكارهم حجّة على الشّرع.
أدعياء العلمانيّة عندنا صدّعوا رؤوسنا لأعوام بالحديث عن جدوى التّعدّد والتّنوّع في الأفكار، ولكنّهم يعملون على فرض فهمهم للدّين وللحياة على الأغلبيّة السّاحقة من المجتمع. ومن خالفهم الفهم فهو “داعشي”، غير مرحّب به في وطنه. فهل أصبحت الوطنيّة صكّا عند كهنة العلمانيّة؟ أليست الوجه الآخر لصكوك الغفران الكنسيّة. “من لا تعجبه المساواة في الميراث فعليه بمغادرة البلاد” هكذا “علمانجيّة” الرّداءة تضيق صدورهم لآراء مخالفيهم يقرّرون بكلّ استعلاء من يحقّ له أن أن يقاسمهم العيش في الوطن ومن يجب عليه ّ الرّحيل، وكانّ الوطن مزرعة لآباىهم وأمّهاتهم. لقدنظر أولاد العلمانيّة المشوّهة في أنواع العلمانيات فاستوردوا أسوأها على الإنسان واجرأها على القيم وأشدّها تطرّفا، حتى جعلوا من أوطان العرب مقابر موحشة.