نور الدين الختروشي
لن تكون سهلة مهمة من سيؤرخ للسنوات ما بعد الثورة، فكل ما وقع منذ 14 جانفي 2011 قد يحتاج الى تيبولوجيا جديدة للقياس، وترمولوجيا جديدة للتسمية، ومنهج وادوات تحليل مغايرين لما تواطئت عليه انسقة العلوم السياسية والاجتماعية.
ما يحدث عندنا فريد…
حزب نداء تونس عنوانا لفرادةٍ في تاريخنا السياسي الحديث…
تشكل هذا “الحزب” وتهيكل واستقطب وربح اول انتخابات تشريعية ديمقراطية في تاريخنا كل هذا في سنة وبضعة اشهر…
ثم تشقق وتفكك وانتهى الى “حزب ابن الرئيس” بسرعة لم يتخيلها وقد يكون تمناها ألد خصومه…
دعونا نغامر بالتورط في تنسيب “الاستثناء الندائي” ومقاربته من زاوية اسئلة كيف ولماذا صعد “النداء” ثم هوى ؟؟؟
اذا كان الدفاع عن النمط البورقيبي الحداثي هو جوهر المعنى الذي تمكنت الالة الدعائية للحزب من تحشيد مئات الالاف وراء خطاب النداء فان عوامل عديدة ساهمت في الصعود “الفريد” للنداء من مثل :
• السياق الاقليمي والدولي الذي لم يستقبل بعين الارتياح ان تأتي الديمقراطية بالاسلاميين للحكم بعيد الثورة.
• للقدرة المتواضعة التي ابدتها النخب الجديدة في ادارة الشأن العام.
• وجود قوة استئصالية فاعلة في اوساط النخبة التي ناضلت ضد الاستبداد واثبتت التجربة الديمقراطية ضعف ايمانها بالحرية.
• كاريزما رئيس الحزب واستدعاءه للحقيقة البورقيبية الكامنة عميقا على حدود رمادية بين الوعي واللاشعور لدى قطاع واسع من النخبة والجمهور ليسد حاجة خطابه السياسي للمعنى والترميز.
• توفر نواة تأسيسية للحزب من فاعلي السوق وباروناته وحيتانه الكبرى سواء الخائفين منهم من الديمقراطية والشفافية بعد ان جمعوا ثرواتهم في سوق لم يحكمه القانون زمن الاستبداد، او المقتنعين منهم ان النخب الجديدة غير قادرة او غير راغبة في توفير شروط استمرارية الاستقرار الاجتماعي المطلوب للسوق ليشتغل بسويته العادية.
• تمكن رئيس الحزب من إقناع جزء معتبر من “البلدية” و”السواحلية” في مشروعه واقناعهم ان استقرار البنية السوسيولوجية للسلطة في تونس والتي من اعمدتها سكان العاصمة الاصليين او “البلدية” مهددا، وان ابناء الأفاقيين او جهات الداخل بصدد تخريب تلك البنية بما سينعكس على مصالحهم وموقعهم من مربع السلطة والقوة في تونس الجديدة.
توفر إذن للحزب المعنى وان كان مقلوبا، كما توفر له “المشروع”، والزعيم، والدينار، وتوفر خاصة للحزب “عدوه اللدود” الذي سيحاربه وجنرالاته الذين سيقودون تلك الحرب لم يكن العدو الذي استهدفته مقاصف الحزب الطاهرة والخفية سوى حركة النهضة على اعتبارها في وعي النخب الحاضنة التاريخية والاداة السياسية للاسلام السياسي…
سيسجل المؤرخون انه من السهل جدا في هذه الايام ان تحشد ما يُحشد اذا كان العدو اسلاميا ففظاعة محصول الحركات العنفية المحسوبة على المدرسة الفكرية والحركية للاسلاميبن، جعلت من الاحالة على “الاسلامي” قرينا للتوجس والحيطة والتجهز للوقاية من مخاطره بالمتاح والمباح والغير مباح، وقد نجح النداء في امتحان توظيف الهاجس الكوني والمحلي من “الاسلاميين” ليحقق مطلوب تحشيد وتجييش كل جيوب النخبة في الاعلام والفن والادارة والفضاء العام. وكم كانت شامله وقاسية معركة كسر عظام حزب النهضة الذي كان يقود البلاد يومها في إئتلاف حاكم ضم اكبر حزبين لائكيين..
حزب نداء تونس كان ابنا شرعيا للحظة تواطئ تاريخي ماكرة حد الخبث عنوانها الخديعة..
فكل مستندات شرعية تأسيس الحزب كانت لها قيمة وظيفية متصلة بالنجاعة، اي بالمشروعية.
نفرق هنا بين المشروعية والشرعية نقصد بالشرعية مجال انتاج المعنى كشرط اساسي لوجود واستمرار الاحزاب التي تنجح في امتحان الامتداد الافقي والعمودي في نفس الآن.
الحزب لم يتأسس على معنى، ولم يستنبت معنى لوجوده السياسي، وعبثا حاول اقتراض المعاني التي تأسست عليها المدرسة الدستورية. فقد اكتشف الرأي العام بسرعة ان معاني تلك المدرسة استنفذها واستفرغها تاريخ بناء دولة الاستقلال، وقليلها قد يواكب هاتف المستقبل على حلم جامع جديد..
المعنى او مجال شرعية الخطاب السياسي هو المنتج للنسق الايديولوجي للتيارات والاحزاب الكبرى، فالهوية لدى الاسلاميين، والعدالة لدى اليسار، والوحدة عند القوميين هي “مراكز انتاج” للمعنى في خطابهم ومشروعهم، لذلك تملكت مقومات الوجود والاستمرار هذا في حين عجز النداء عن انتاج المعنى، واختار أو أضطر أن يتحايل بأستدعائه الوظيفي الميكيافيلي الاصفر للبورقيبية، وحشرها عنوة في معركة جديدة ضد “عدو” قديم، ونسي ان البورقيبية استنفذت ادواتها لحساب لحظتها، وان خصمها او عدوها جسم حي قد تجدد…
كان امام النداء فرصة ليتأسس على قاعدة الاندماج في الزمن السياسي الجديد، ولكنه تذاكى على الحقيقة التاريخية، وقفز عليها ليختار اختراق الحاضر والمستقبل ببقايا غبار معارك الماضي. فالعقل السياسي الذي كان يديره اثبت انه مناور بارع على الحقيقة بمطلوب النجاعة، ولقد امتدت حدود طرده للحقيقة لتشمل الذاكرة فعبث بها وزورها. وبين فوضى العبث والتزوير اقتدح حزب النداء لخطابه السياسي محموله المعنوي والرمزي..
الخوف “صداع الحرية” هذا ما قاله أب الفلسفة الوجودية كيركيقارد…
الخوف من “الاسلامي الحاكم” حرم جزء كبير من التونسيين من ممارسة متعتهم الوجودية كأحرار، هؤلاء تحديدا لم تخطأهم الحاسة السياسية لزعيم الحزب، فاستهدفهم بقصف رمزي من خلال لعبة التجسيد للمعنى البورقيبي، ذلك المعنى الذي تخمٌر في ادمانه الباجي زعيما، تماما كما تفنن في نسيانه السبسي رئيسا. ربما هنا يكمن معنى دعوة الرئيس الى المساواة في خطاب عيد المرأة. فبقطع النظر عن جدية الدعوة حرص الرئيس على إدماج دعوته في سياق المشروع البورقيبي مما جعل العديد من المراقبين يرجحون ان الرجل دشن حملته الانتخابيه المبكرة بمغازلة جمهوره الحداثي..
الفرادة حقل دهشة يغري ىإستنبات السؤال وانتاج لمعاني..
فريد ومدهش هذا النداء في مسار ميلاده السعيد وصعوده الخارق لكل النواميس، والحارق لكل الاضواء…
فريد ومدهش أيضا هذا النداء في مسار تحلله وتسارع مفاعيل تفككه الحزين… وتلك قصة اخرى
ربما نعود إليها..
جريدة الرأي العام