عندما تتداول الرداءة باسم الفن يكون الجمهور هو الضحية
مثّل مهرجان قرطاج منذ انطلاقته فضاء للتلاقي بين المشتغلين والمنشغلين جديا بالاعمال الفنية للاطلاع على تجارب فنية وجمالية مختلفة لذلك ظل هذا الفضاء وإلى تاريخ غير بعيد مجالا للارتقاء بالفن والانخراط أكثر في صلبه وتهذيب للذوق الفني وتطويره إضافة إلى ذلك يعطى المهرجان مساحة وفرصة للمبدعين التونسيين والعرب لتقديم إبداعاتهم الفنية والتعريف بأعمالهم علاوة على الانفتاح على تجارب مبدعين آخرين من مختلف أنحاء العالم وتبادل الخبرات معهم.
وباعتبار ان هذا الفضاء العمومي هو ملك للشعب دون سواه فمن المفترض ان يشتغل القائمون عليه من أجل نشر ثقافة بديلة ذات عمق حضاري تحمل رسالة وثقافة وتتجنب التسطيح الفكري ولا تكون مرتعا لمن هب ودب. وقد شد انتباهي وانا بصدد تحرير هذا المقال خبر الغاء حفل مغني الراب المدعو ‘كلاي بي بي جي’ ببعض مسارح البلاد.. بسبب إنسحاب قوات الأمن ورفضهم تامينه جراء بعض الأغاني التي اعتبروها مهينة لهم وقد كنت امني النفس بان لا تتم عملية الغاء حفلات من هذا النوع بهذه الشاكلة ومن المفروض أن يزج بها في قفص المساءلة لكونها أصبحت تضرب القيم وتصيبها في مقتل لان حجم اساءاتها لا تعد ولا تحصى ففي غياب موسيقى تونسية وعربية راقية أمام سطوة هذه الأعمال المبتذلة والمقززة والحبلى بالكلمات “الهابطة” والمضامين “الفجة” يرتفع ايقاعها وصداها في زمن الهبوط هذا الذي سادت فيه الجرأة وقلة الحياء وظهرت فيها المضامين والعبارات غير اللائقة فضلاً عن طريقة الأداء وما تتخلله من ايحاءات قبيحة وتحمل ضمن ما تحمله الكثير من الرسائل المزعجة.
ما تعيشه الأغنية الشبابية في الوقت الراهن من ابتذال وتحول جعلها تتراجع ذوقيا وأخلاقيا ليثار التسؤال حول حدود العلاقة بين الفن والأخلاق وطبيعة الخيط الناظم بينهما. فهل انتشار هذا “النمط الغنائي” بمضامينه تلك يجسد المعنى الحقيقي لحرية التعبير في تونس؟
لاشك أن هناك انحدارا خطيرا تعرفه الأغنية الشبابية في الوقت الراهن لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل الوضع راجع لـ “الرداءة” التي تسم الكلمات والألحان والأصوات وتغرقها في مستنقع الابتذال؟ أم السبب هو تدني الذوق العام وفي الحقيقة فان كلا السببين وجيهين لانه هذا التساءل هو اعتراف قوي بأن الأغنية الشبابية بكل انفلاتاتها تحاول جاهدة سحب البساط من تحت أرجل قيمنا وأخلاقنا وتقاليدنا، حتى يصل الكثير منا إلى ترديد أغاني فارغة بلا شكل ولا مضمون ولا طعم ولا رائحة ويتماهى معها الجمهور وخاصة الناشئ منه، معلنا الثورة على أفكار وقوالب جمالية وأخلاقية.
فبحق السماء أي ثقافة يبشر بها بعض رموز “الدي دجي” و “الراب” كي يصعدوا على ركح قرطاج العظيم وتدفع لهم الدولة من مال الشعب مكافئات سخية ؟ فهل بهذه العبثية سنواجه ثقافة الموت اذ لو دعمت وزارة الثقافة عشرات من الجمعيات الشبابية الجدية التي تغوص في عمق الأحياء الشعبية والمناطق المهمشة بتمويلات شبه منعدمة وكثير من العزيمة لانتشال الشباب من العدمية وانتظار الموت إرهابا أو إدمانا لكان أجدر من ثقافة “الزبلة في البوبالة” و”قبي قبي” وما على شاكلتها.
أما عندما يصبح للمدمنين وللمخنثين صوت ومعجبين وللرداءة أنصار وثورين فاعلم إننا في زمن الرداءة الذي تصبح فيه هذه النماذج البشرية معبودة الجماهير. نحن نصفق دائما للتافهين لأنهم للأسف مرآة أخلاقنا وقيمنا. إن أسوأ ما يمكن أن يتجرعه المرء هو القبول بالرداءة باسم حرية التعبير أو حرية الضمير بعدما خلنا إن زمن الرداءة قد ولى وهامش الحرية قد ساهم في إنتاج اعمال فنية طلائعية وتقدمية رائدة.