نتائج باكالوريا في سنوات الجدب: ثمار عقود التهميش والإقصاء
وأخيرا حلت أيام الحصاد المدرسي بصدور نتائج الدورة الرئيسية للباكالوريا وهي المحطة التقييمية الوحيدة بعد ثلاثة عشر سنة يقضيها التلميذ التونسي على مقاعد الدراسة. وبالتوقف عند ابرز المؤشرات يستأنف النقاش الذي ما توقف يوما وما نخاله يتوقف يوما ما حول واقع الامتحانات وحجم الانتظار ويعود الجدل محتدما بشان نتائجها كما كان قائما بالأمس القريب حول الاخلالات التي رافقتها في تلاعب صارخ بمصائر التلاميذ ومستقبل البلاد.
وأول ما يشدنا في قراءة هذه النتائج هو التراجع الملحوظ الذي سجلته نسبة النجاح مقارنة بالسنة الماضية على الأقل لكن المشهد يبدو مختلفا في مستوى قراءة توزيع نسبة النجاح حسب الشعب فالمشهد يبدو صادما إذ في الوقت الذي حافظت فيه بعض الشعب على تموقعها كان التراجع لافتا لشعبتي الآداب والاقتصاد والتصرف والكثير يتعجب ولا يعلم إن من يوجه إلى هاتين الشعبتين هم من صنف “العرجاء والنطيحة” لأنه مهما كانت قدرة المدرسين واجتهاداتهم فهم لا يستطيعون الارتقاء بهم إلى أدنى مراقي التعلم أو بالحد الأدنى إلى مستوى الصياغة الصحيحة للجملة والعبارة أما المتميزون منهم وعلى قلتهم فهم يوجهون أو يتوجهون إلى شعب العلمية بجميع أصنافها وهذا ما يقيم الدليل مرة أخرى على إخفاق نظام التكوين والتوجيه المدرسي لان هذا التحول من منظومة أدبية إلى أخرى مهنية لم يواكبه تحسين موضوعي لمنظومة التكوين والتوجيه المدرسي ومراجعتها.
ومن جهة أخرى ولئن مثل موضوع الامتحان قاسما مشتركا بين كافة المترشحين أين ما كانوا وحيث ما تقدموا لاجتيازه فان نسبة النجاح حسب الجهات تبقى شديدة التفاوت تعكس بوضوح ما عانت منه دواخل البلاد ولعقود من تردي مستوى التعليم وهو إحدى مظاهر الحيف الذي لحقها فكلما ارتفعت نسبة الفقر في ولاية انخفضت نسبة النجاح بالضرورة والعكس هو الصحيح. من هذا المنطلق تطرح قراءة التفاوت في فرص النجاح على الصعيد الجغرافي وتبقى خاضعة لطبيعة الظروف المادية والاجتماعية لكل جهة وأيضا حسب الإحاطة التربوية والجوانب اللوجستية والبشرية المتوفرة للدراسة. فقد عمقت نتائج الامتحانات التباينات والاخلالات وظلت الولايات الداخلية للبلاد قابعة في ذيل الترتيب اذ همشتها سياسات أنظمة تعليمية متعاقبة وغذتها إدارة الهواة من أشباه الثوريين وزادها تخاذل أبنائها ونفورهم منها وتماهيهم مع سياسة الدولة المرتجلة والفاشلة وحرصهم على تبرير ما لا يبرر منها.
لقد كشفت خارطة توزع النتائج على مستوى القطر العلاقة العضوية بين تحقيق النجاح المدرسي وارتفاع المؤشرات المعيشية: تأكيد جديد إن جودة التعليم مشروطة بتوفير مقوماتها ويبدو إن تلاميذ الدواخل هم في الأصل ضحايا لسياسات اجتماعية واقتصادية جعلت حضورهم شاسع في حقل التخلف والتهميش التعليمي. فهذه الأقاليم تسجل بها نسب الأمية معدلات قياسية ولا تزال المؤسسات التربوية فيها تتصدر قائمة الشغورات في إطار التدريس وفي عدد النواب العاملين بها وتحولت إلى محطات عبور ضمن مؤسسات العمل الدوري فضلا عما تعانيه من تردي البنية التحتية (تهاوي المدارس – فقدانها للحد الأدنى من التجهيز – اعتماد نظام الفرق – نقص كبير في إطار الإشراف البيداغوجي – عدم استقرار الاطار التربوي…) بالمحصلة حرمان الناشئة من تكوين أساسي متين لا يوفر المقومات البيداغوجية للعملية التعليمية فتتحول المدرسة حينئذ إلى مؤسسة يتخرج منها ضعاف التكوين أو أشباه أميين وفضاء ينتج الرداءة مما اثر على جودة التعليم بصفة تراكمية ولذلك لم يكن مفاجئا ولن يكون التراجع الفادح لنسب النجاح.
الوضع الكارثي استشعره المربون قبل سواهم ونبهوا من أثاره على العملية التربوية بشكل عام لأنه وبدون مراجعة جادة تأخذ بعين الاعتبار جميع جوانب العملية التربوية فإننا لن نكون شركاء في نسف مجموعة القيم المجتمعية الموجودة نصا والتي نعمل على ترسيخها على الأقل نظريا ومنذ عشرات السنين والقائمة على المساواة في الحقوق وضمان تعليم موحد وإجباري لأنه تسليم بالحق في ما يسمى لغوا “جدارة الحياة” لعموم أبناء شعبنا من الشمال إلى الجنوب ومن الساحل إلى الداخل. والأهم من هذا كله أن يكون للجميع الحق في فرصة حقيقية للرقي وتغيير واقع الحال والتوق إلى الأفضل وزرع الأمل الذي به نربي وبه نعيش.