تدوينات تونسية

تدنّي نتائج البكالوريا آدابا : الأسباب والعوامل

فوزي الطلحاوي

ليس مفاجئا بالنّسبة إلى المشتغلين في المجال التربوي والتّعليمي والمنشغلين به ضعفُ نتائجِ البكالوريا آدابا هذه السنة والسنوات الماضية، بل الأعجبُ أن تكون نقيضَ ذلك، نظرا لتحالف أسباب وعوامل متشابكة على تلميذ اليوم، فما أسباب تدنّي تلك النتائج ؟ وما دواعي تردّيها ؟ وهل من حلول لإعادة الاعتبار إلى شعبة الآداب التي كانت قاطرة شعب البكالوريا في أواسط القرن الماضي ؟

1. أسباب تدنّي نتائج البكالوريا آدابا

أ. أسباب بعيدة وغير مباشرة :

يصعب ترتيب أولوياتها نظرا لتشعّبها وتداخلها واربتاط بعضها ببعض، ولعلّ منها :

● العولمة التي بقدر ما جعلت العالم قرية كونيّة وقرّبت المعلومة والكتاب والمعرفة بالإنسان في أيّ مكان، بقدر ما أسهم التطوّر التكنولوجي في غزو الصورة الفضاءات الاتصالية والتواصليّة، بما فيها تطور تقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد HD واعتماده في تطوير ألعاب الفيديو والكليبات المصورة ونقل المقابلات الرياضيّة وغيرها، ممّا شتّت ذهن الشّاب واحتلّت تلك الألعاب والانشغالات حيّزا هامّا من وقته، إضافة، طبعا، إلى مواقع التواصل الاجتماعي كالفايسبوك والتويتر التي استنفدت طاقته وأضاعت وقته وأشغلته عن المطالعة…

● سياسة الدولة الشبابية والثقافية والتربوية : لقد كان واضحا منهج دولة ابن علي ورؤاها القاصرة في مقاربة واقع ثقافيّ وتربوي وشبابيّ قد تراجع خاصة في ثمانينات القرن الماضي، وبما أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فقد فشلت الحكومات المتعاقبة في رسم سياسات تربوية وتعليمية وثقافية وشبابية تنهض بالمعرفة والآداب وتمكّن الشابّ التونسيّ من مقوّمات الصمود ومن أدوات يواجه بها هيمنة العولمة والغزو الثقافيّ وتوحّشها، فكانت دور الشباب فضاءات خاوية على عروشها يمارس فيها زيف الوعي كما أضحت مُحتكرة لنشاطات الشباب التجمّعي الحزبيّة، إذ سرعانما هجرها الشّاب إلى فضاءات المقاهي التي تواترت أعدادها بصفة جنونية بداية من تسعينات القرن الماضي، ولم تكتف تلك السّياسات بذلك بل وجّهت الشّباب عمدا إلى الإقبال على ما يساعد على تخدير مداركه، فنفخت في صورة رياضة كرة القدم واستغلتها استغلالا إجراميّا في بثّ سموم الجهل والهوّيات الغريبة والمهلكة والممزّقة لوحدة المجتمع وتماسكه، ولا عجب إنْ لم تُوظّف الدولة التونسيّة كلّ مقدراتها لتطوير الواقع الثقافي والتّشجيع على الحريّات وعلى نشر ثقافة الخلق والإبداع و”صناعة الحيل” ومراقبتها وتوجيهها، بل الأعجبُ أنْ التجأت إلى الحلول السّهلة ألا وهي قمع كلّ مبادرة أو رأي، فبعدما كانت المعاهد والجامعات شبه منابر للحوار والجدل والمثاقفة تحوّلت مع الجنرال ابن علي إلى أشبه بالفضاءات السّجنيّة ومنعت الكتب والمجلات والدوريات التي كان يمكن أن تحظى بالقراءة والمطالعة وحلّت محلها كتب الطبخ والسحر والشعوذة ومجلات الموضة من لباس وماكياج… لتنحدر نسب إقبال التونسي على المطالعة إلى 8 دقائق في السنة، ولعلّ نسبة الشباب منهم لا تتعدى الواحد في المائة.

العوامل التي أدّت إلى تراجع العلوم الإنسانية هي تقريبا العوامل التي ستؤدّي إلى نفور الشّاب من الإقبال على شعب الآداب تعليما وتوجيها، وهي العوامل تقريبا التي ستؤدّي إلى ضعف نتائج تلاميذ البكالوريا آدابا.

إنّ سياسة الدّولة التربوية والثقافية والشّبابيّة والإعلاميّة والتّشغيليّة التي همّشت الثقافة والمثقّفين وخرّبت مؤسّساتها وهمّشت الكتّاب والشعراء والمثقّفين وأساتذة الفلسفة والعربية والتفكير الإسلاميّ والتّأريخ… ترى ماذا ستنتج ؟ الم تصوّر مادة الفلسفة أمّ العلوم “فلفسة” ؟ ألم تخرج أعمالنا السينمائيّة والدراميّة الفيلسوف حامل الفانوس الأخير أشعث أغبر مجنونا “ملحدا زنديقا” ؟ ألم يصوّر أستاذ العربيّة قروسطيّا يتسكّع في شوارع غرناطة هائما على وجهه يردّد أبياتا لابن زيدون والشّنفرى والحلاّج والمتنبّي ؟؟؟ ألم يشهّر الإعلام بالثقافة والأدب من خلال برامج ضحلة لأشباه المثقّفين والكتّاب ؟ عودوا إلى مجلّة الحياة الثقافية في تونس واحصوا كمّ النصوص الجيّدة ولاحظوا إنْ كانت ثريّة ومنفتحة على الآداب العالميّة ؟؟؟ أبتلك الصور المهينة للآداب والفنون يمكن أن نعدّ أُنموذجا يحتذِيه الشّباب ويرغّبه بالآداب ؟؟؟

● ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل من حاملي شهادات الأستاذيّة من الآداب والعلوم الإنسانيّة وخاصة الفلسفة والتفكير الإسلامي والتاريخ والجغرافيا والعربية.

لو توسعنا في الأسباب غير المباشرة فالمجلّدات لن تكفِيًنا، لذا، أمرّ إلى الأسباب المباشرة :

ب. الأسباب المباشرة : أوجز أهمّها في مايلي ، دون الإلحاح على التّرتيب :

● ضعف زاد المتعلّم في اللغات وخاصة اللغة الفرنسيّة والعربيّة، فالبرامج وطرائق التكوين والتّقييم قد أثبتت محدوديتها، وخاصّة مع “تجريم التّلقين” تجريما مطلقا وصعف المحفوظ، وتهميش درس المطالعة.

● نفور المتعلّم، بسبب ضعف تمكّنه من اللّغات من دروس العربية والفرنسيّة خاصّة التي مازال حزء هامّ منها رتيبا وتقليديّا، إضافة إلى غياب هامش اعتماد الوسائل البيداغوجيّة الحديثة واستخدامها في تلك لدروس.

● ضعف التكوين الديداكتيكي والبيداغوجي لدروس العربية والفرنسيّة والتاريخ والجغرافيا خاصة للسادة المتفقّدين أنفسهم وللأساتذة بسبب ما لحق التّشغيل والتوظيف والتّكليف والمناظرات والترقيات من بيروقراطيّة وفساد ومحسوبيّة وانعدام الشفافيّة والمحاسبة. فمن حوسب بسبب نتيجة 13% هذه ؟؟؟

● التوجيه وما أدراك ما التّوجيه ؛ فأغلب المتوجّهين آدابا من “اللاجئين” من بقيّة السّعب، بعد أن اقتسم الزملاء أساتذة المواد العلميّة “كعكة” التلاميذ النّجباء في مجالس التّوجيه، ليبقى صراع القاع محتدما بين شعبتي الآداب والاقتصاد والتصرّف، وهما الشّعبتان اللتان لا تدرّان الفتات على الزملاء الذين يقدمون دروسا خصوصيّة وخاصة في المواد العلميّة، فبعض زملاء المواد العلميّة في المرحلة الثانويّة استحالوا “شرطة توجيه تربوية” مارس دون وعي تأثيرا سلبيّا على اختيار المتعلمين وتوجيههم، متجاوزا صلاحياته ومستغلا لموقعه في توجيه المتعلمين توجيها خاطئا.

● من الأسباب أيضا سوء اختيار أساتذة البكالوريا أحيانا، وهذا سبب قد يكون ثانويّا، إذا اعتبرنا أنّ النجاح مسار وسيرورة، ولكنّه في رأيي مهمّ، فمن خلال تجربتي الشخصية كان لأستاذي في العربيّة الشاب خميس الجبري* الملتحق حديثا بالتّدريس دور هام في توجيهي منهجيّا، لأنّه اعتبر مهمّته صعبة، فبذل من أجلها الطاقة والجهد، ولم نكن نعرف وقتها “دروس الدعم”؛ وهي مناسبة لأحييه وأعترف له بالفضل.

اكتفيت في هذه الورقة الافتراضيّة ببعض أسباب تدنّي تنائج البكالوريا آدابا، ولم أدّع من خلال هذا المجهود الفرديّ أنّي وُفِّقتُ في الإتيان عليها كلّها لأنّه مجهود مؤسّسات لا أفراد، كما أنّي لم أقصد الحطّ من مجهود زملائي أساتذة البكالوريا أو غيرهم في تطرّقي إلى بعض الظواهر السلبيّة التي تعيق ظروف نجاح تلميذ الآداب وسير تعليمنا الطّبيعيّ. وفي ورقة لاحقة سأعرّج على الحلول العاجلة والآجلة. إن شاء الله. ( يتبع )

* الأستاذ خميس الجبري غير المتفقد خميس جبري.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock