لماذا تدعو الجبهة إلى انتخابات تشريعية مبكرة ؟
الجبهة الشعبية، ائتلاف سياسي يضم مجموعة من الأحزاب ذات الخلفية الشيوعية المحافظة وأخرى عروبية مع اختلاف بينها في ترتيب الأوليات أو في المواقف من بعض القضايا الحيوية في الداخل والخارج، خرجت الجبهة من الإنتخابات التشريعية الأخيرة بـ 15 مقعدا في البرلمان، وقد عرضت نفسها على الحزب الأول الفائز في الإنتخابات (نداء تونس) للتحالف معه رغم الحصاد الهزيل في التشريعية وكردة فعل على نتائج الإنتخابات التشريعية الأخيرة وعلى التوافق بين النهضة والنداء وفي سعي منها لإثبات وجودها لم تخف دعمها لمختلف الإحتجاجات الإجتماعية بل والإنخراط النسبي فيها خاصة إبان حكومة السيد الحبيب الصيد (أحداث القصرين، قابس، القيروان)، ومن المفارقات الغريبة أنّ الجبهة لم تزكّ حكومة السيد الحبيب الصيد ولكنها عبّرت عن تعاطفها معه يوم قدم استقالته أمام البرلمان نكاية بالإئتلاف الحاكم وبعد مرور حوالي نصف المدة النيابية يتردد هذه الأيام على لسان زعامات الجبهة الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة.
مادلالات هذه الدعوة؟ وهل تعبر الدعوة على جاهزية الجبهة للفوز بالإنتخابات أولا ثم الحكم ثانيا كما تردد كثيرا على لسان الناطق الرسمي باسمها والمهيمن عليها. وإن لم تكن متأكدة من ضمان الفوز بعدد من المقاعد يؤهلها للحكم أو لبناء تحالفات تمكنها من المشاركة في الحكم فما مصلحتها في الدعوة لانتخابات مبكرة ؟ لقد تزامنت دعوة قيادات من الجبهة إلى انتخابات تشريعية مبكرة مع بداية الإستعدادات الفعلية للإنتخابات البلدية، فأي الموعدين أهم عند الجبهة؟ أليست الدعوة لانتخابات مبكرة هي من باب التشويش على الإنتخابات البلدية؟ وتعلم الجبهة علم اليقين أن الدولة لا يمكن أن تتحمل تكلفة انتخابات مبكرة، اليس تشغيل العاطلين وتحسين القدرة الشرائية “للزواولة” أولى من الإنفاق على انتخابات مبكرة؟
تناقض الجبهة الشعبية نفسها عندما تنتقد الحكومات المتعاقبة بعد الثورة لكونها حافظت على منوال التنمية القديم (وهي محقة في ذلك)، وفي نفس الوقت تشوش على الإنتخابات البلدية أو تتلكّأ في إجرائها إذ كيف يمكن تغيير منوال التنمية في غياب الديمقراطية المحلية؟ وهل يمكن الحديث عن بديل تنموي في واقع محلّي محكوم بتصورات وعلاقات قديمة ؟ لا شكّ أن الإنتخابات المحلية هي الخطوة الأولى الجدية على طريق التغيير الفعلي لمنوال التنمية.
كثيرا ما تردد على لسان الناطق الرسمي باسم الجبهة أن هذه الأخيرة جاهزة لتسلّم الحكم ولكنه لم يبين الطريقة هل عن طريق الإنتخاب وهو أمر مشروع ومتاح لكل الأحزاب بمقتضى الدستور أم عن طريق العنف الثوري ؟ وهذا أمر لا يقره الدستور. ربما تراهن الجبهة على تآكل شعبية النداء والنهضة وكلا منها تعزى (تهرئته) إلى أسباب خاصة به، فالنداء فشل في وعوده الإنتخابية وشهد تصدعات وتشققات يصعب معها أن يحافظ على قاعدته الإنتخابية، وأما حركة النهضة كحزب جاءت به الثورة للحكم يرى كثيرون أنه أخطأ في تحالفه مع المنظومة لقديمة. هذه القراءة للواقع ربما هي التي أوحت إلى الجبهة بإمكانية تغيّر المشهد الإنتخابي لصالحها أو لصالح حلفائها المحتملين بما يساعدها على بناء تحالفات جديدة قد تدفع بها إلى السلطة.
إن الدعوة إلى انتخابات مبكرة تكشف عن يسار شديد التقلب، يذكر أن حمة الهمامي كان قد دعا بعد هروب المخلوع إلى مجلس قومي تأسيسي وهو نفسه أول من دعا إلى حلّه والغاء المسار الديمقراطي برمّته مباشرة مع أول عملية إرهابية ضربت البلاد، كما أن الأحزاب ذات الخلفية الشيوعية المحافظة التي صفقت لهروب المخلوع هي ذاتها التي تحالفت مع المنظومة النوفمبرية في اعتصام الرحيل لإسقاط الحكومة الثانية للترويكا وهو ما تم لها بالفعل. إننا إزاء يسار فريد من نوعه لم يعد معنيا بقضايا العدالة الإجتماعية ولا بالإنتصار للكادحين والفقراء ولا بالحرية ولا بتصفية آثار الإستبداد وإنما نحن إزاء يسار غلبت عليه أيديولوجيته، جعل من إقصاء واستئصال من جاءت بهم الديمقراطية شغله وهدفه بل وجعل ذلك مسألة وجودية.
يذكر أن الأحزاب المكونة للجبهة أوهمتنا لسنوات طويلة وأنها تناضل ضد استبداد المخلوع وعندما أتاحت الثورة للشعب التونسي فرصة التخلص من المنظومة النوفمبرية قطعت الجبهة الطريق على الرئيس السابق المنصف المرزوقي، لم يشفع له نضاله ضد الإستبداد ولم يشفع له انحيازه للثورة ولأهدافها. وكانت تلك الطعنة الثانية التي وجهتها الجبهة للتجربة الديمقراطية الوليدة في تونس بعد اعتصام الرحيل.
إن الجبهة الشعبية بعرقلتها للمسار الديمقراطي في تونس وإثارة الشبهات حوله فهي لم تمكن للمنظومة النوفمبرية فحسب وإنما سرقت حلم التونسيين قي تطلعهم للتخلص من الإرث الإستبدادي وقضت على حلم الجهات المحرومة في العدل والمساواة وبرزت كواجهة حقيقية وفعلية للثورة المضادة حيث هيأت الأجواء لعودة سريعة للمنظومة النوفمبرية. وبحكم التحجر الأيديولوجي والجمود الفكري ترى الجبهة أن لا جدوى من ديمقراطية ولا فائدة ترجى من ثورة لا تكون الغلبة فيها للأيديولوجيا. ومازال الشيوعيون في تونس مشدودين إلى المرحلة اللينينية الستالينية باعتبارها أفضل تطبيق للماركسية أكثر من تطلعهم لإرساء ديمقراطية حقيقية في تونس وفي الوطن العربي وهذا يعني أن أولويات الرفاق ليست أولويات الثورة ولا أولويات المجتمع التونسي الذي لم تعد تعنيه المعارك الأيديولوجية والشعارات بقدر ما يعنيه الشغل والتنمية وتحسّن الخدمات في مختلف المرافق.