أسفاري واللغات الحية (22)
أحمد القاري
الألمانية بنت الإنجيل
لاحظت أن بعض الألمان ينتقلون إلى الحديث بالألمانية بعد أن يكونوا بدؤوا معك بالإنجليزية دون أن ينتبهوا لذلك. وهذا ما يمكن أن نسميه “اللغة الأم.”
بعد التنبيه يعود مخاطبك للإنجليزية. واللغتان الألمانية والإنجليزية من اللغات الجرمانية. ولذلك لا يصعب على الألماني تعلم الإنجليزية وإتقانها بفضل تقارب اللغتين في الرصيد اللغوي والبنية والأصوات المستخدمة.
ظلت الألمانية لهجات عديدة لا يفهم بعضها بعضا حتى نشر (مارتن لوثر)، قائد حركة الاحتجاج ضد انحرافات الكنيسة الكاثوليكية، ترجمة للإنجيل والتوراة إلى الألمانية سنة 1522.
كان مارتن لوثر قد نشر بحثا ضمنه قريبا من ستين ملاحظة على ممارسات البابا والكنيسة الكاثوليكية. وكان بيع صكوك الغفران، المنتشر في زمنه على نطاق واسع، أهم ما اعتبره مارتن فسادا بينا وانحرافا عن تعاليم الإنجيل.
انتقد مارتن الرهبنة ووساطة الكهنة بين الناس وربهم. وقال بأن المغفرة ودخول الجنة تعتمد على رحمة الله ولا يمكن أن تجلب بعمل الخير وحده.
ولاقت دعوة لوثر تجاوبا واسعا، وتسببت في حروب كثيرة بسبب القمع الشديد الذي تعرضت له الحركات المحتجة من طرف مؤسسات الكنيسة والملوك التابعين لها.
طالب البابا مارتن لوثر بالتخلي عن أفكاره فلما رفض حكمت عليه الكنيسة بالابعاد والحرمان الكنيسي (صيغة التكفير النصرانية).
حدد مارتن عددا من فصول الإنجيل باعتبارها مشكوكا فيها أو ضعيفة. وسجل عليه أنه تصرف أحيانا في النص الأصلي وفق ما تقتضيه “ضرورة وضوح المعنى”.
انتشرت نسخة مارتن لوثر، ومراجعاتها اللاحقة، بين الألمان وتحولت اللغة التي استخدمها بالتدريج إلى “ألمانية فصحى” مقابل لهجات محلية كثيرة. وبشيوع التعليم واستخدامه للألمانية الفصحى تحول معظم سكان ألمانيا الحالية عن لهجاتهم إلى الحديث بالألمانية الفصحى.
وبالمقابل ظلت مناطق عديدة متحدثة بالألمانية تعرف ثنائية لغوية فهناك اللغة الألمانية الفصحى المستخدمة في الكتابة والتدريس وهناك اللهجات المحلية. وهذه الظاهرة موجودة في سويسرا والنمسا وبعض ولايات ألمانيا نفسها.
لا يمكن للألماني فهم اللهجة الألمانية السويسرية. وفي الإعلام يتم استخدام الترجمة الصوتية أو المكتوبة. ولأن السويسريين يتعلمون الألمانية الفصحى نطقا وكتابة من سن السادسة فهم عادة يتحولون للحديث بها إذا كان من بين الحضور شخص لا يتكلم اللهجة السويسرية.
وتستخدم اللهجة السويسرية في المحادثة الشفوية في كل المجالات. ويمكن أن يستعين بها الأستاذ في شرح الدروس. ولكن الكتابة محجوزة بشكل كامل تقريبا للألمانية الفصحى.
ويمكن اعتبار الثنائية اللغوية في الألمانية السويسرية أشد من الثنائية الموجودة في بعض الدول العربية حيث يسهل على معظم العرب تعلم لهجات بعضهم وفهمها دون الحاجة لتعلمها بشكل نظامي. وهو أمر يظهر أثره في ندرة حاجة وسائل الإعلام العربية إلى إدراج نص مكتوب يوضح حديث عربي يتكلم بلهجته المحلية.
وربما يكون علينا أن نرسل إلى سويسرا الالمانية السيد نور الدين عيوش لإقناعهم بالتخلي عن الألمانية الفصحى لفائدة اللهجة السويسرية. الفكرة ربما تساعد في تحسين مستوى التعليم في سويسرا ليكون قريبا من مستواه في بلد اللغات الحية: المغرب.
#لغات_حية 22