شاع بين النخب التونسية، بعد الثورة، وبعد كل الذي شهدته البلاد، من تجاذبات ومن توافقات، مصطلح “الإستثناء التونسي”. فما دلالة هذا المصطلح؟ وما وجاهة استخدامه؟
بداية، مستخدمو هذا المصطلح ينتمون إلى ضفتين مختلفتين الضفة الأولى، اتسعت لأنصار الثورة، والمتحمسين لتحقيق أهدافها. هؤلاء، مثلت الثورة لهم حلم أجيال بأكملها، منهم من قضى نحبه، ولم يقدر له أن يعيش الحدث الثوري، ومنهم من ينتظر أن تستكمل أهدافها، وفاءا، لمن مضى، ولدماء الشهداء، التي ألهبت حماس التونسيين، حتى تكلل نضالهم بطرد المخلوع، وتدشين عصر جديد (الربيع العربي).
وعلى الضفة الأخرى، نجد النظام القديم، ممثلا في أذرعه السياسية، والمالية، والإعلامية. وهؤلاء يرون في الثورة خطرا داهما على نفوذهم وعلى مصالحهم، بل حتى على رؤوسهم، بالنظر إلى ما تعلق بهم من جرائم قد تكشف عليها هيئة الحقيقة والكرامة. صحيح أن الثورة باغتتهم، كما باغتت المخلوع، وأصابتهم بحالة من الذهول في الأيام الأولى لهروب المخلوع، واضطرتهم إلى الإختباء. ولكن دهشتهم لم تدم طويلا، إذ سرعان ما لملموا صفوفهم، وأجمعوا أمرهم على الكيد للثورة، خوفا من أن تحدث تغييرات عميقة في المجتمع. وقد استفادت الثورة المضادة كثيرا من مناخ الحريات الذي أصبح متاحا بعد الثورة للجميع استعملت عصابة الإعلام النوفمبري، الحرية لضرب الحرية.
فما دلالة التقاء الفريقين حول ما اصطلح عليه “الإستثناء التونسي” رغم تباين الأهداف؟ لا يخفي المتحمسون للثورة، سعيهم إلى تحقيق أهدافها بطريقة ناعمة، كما تتطلع الثورة المضادة إلى استعادة المشهد القديم، والإنقلاب على استحقاقات الثورة، بطريقة ناعمة، يبدو ذلك جليا من خلال:
1. الإستمرار في ترذبل الثورة، اعتمدا على أذرعها الإعلامية.
2. التشكيك في هيئة الحقيقة والكرامة، والسعي إلى عرقلة عملها،حتى لا تنجح في تحقيق مهامها، لكونها تشكل خطرا على منظومة الفساد.
3. السعي إلى تمرير قانون المصالحة الإقتصادية، تنفيذا لوعود انتخابية، قطعها حزب النداء لداعميه ممن علقت بهم جرائم اقتصالية، من منظومة الفساد والستبداد.
هذا “التكتيك” المتبع من الفريقين، يراهن على عنصر الزمن،، وعلى مجريات الاحداث لتحقيق غاياته، مع استبعاد خيار العنف، الذي بلغ ذروته في اعتصام الرحيل.
لكل ما سبق يمكن القول بأن المسار الثوري في تونس، يبقى استثناءا من التاريخ، ومن الواقع، كيف ذلك؟
هو استثناء من التاريخ، لأن أغلب الثورات في العالم، اختارت الإنتقام منهجا لتحقيق أهدافها. الثورة الفرنسية مثلا، رافقتها اضطرابات اجتماعية وسياسية عنيفة امتدت لسنوات طويلة. وتحول “روبسبير”، أحد أبرز قادة الثورة من بطل شعبي وثوري إلى ديكتاتور وسفاح قتل زهاء (6000) شخص في اسابيع معدودة، وعرف عهده بعهد الإرهاب، حيث أصبح قطع الرقاب “بالمقصلة” مشهدا مألوفا عند الفرنسيين. ولم يستقر الوضع لصالح قيم: الحرية، والمساواة، والإخاء، إلا بعد الإطاحة به وإعدامه بنفس الطريقة، التي كان يعدم بها خصومه.
وفي مطلع القرن العشرين، استطاعت الثورة البلشفية (1917) بقيادة “لينين” إنهاء حكم القياصرة، وتأسيس ما يعرف بدكتاتورية البروليتاريا التي تكفلت بتصفية خصومها تأسيسا للنظرية الشيوعية المستمدة من أفكار “كارل ماركس”. وقد استكمل “ستالين” بناءها وسط مجازر رهيبة.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، أطاحت الثورة الإيرانية بقيادة المرجع الديني “آية الله الخميني” بحكم الشاه، واستبدلت حكمه، بحكم الجمهورية الإسلامية. واستطاعت في مدة وجيزة التخلص من خصومها، مذهبيا تخلصت من السنة، وسياسيا تخلصت من حزب “تودة” وهو أقدم تنظيم ماركسي لينيني في المنطقة.
بالنظر إلى حقائق التاريخ ، فإن الثورة التونسية استثناء لأنها لم تنصب المشانق لمن ثارت عليهم، ولم تحرمهم “حق العودة” إلى المشهد السياسي عن طريق الإنتخابات والتوافقات، ويمكن ان نشير هنا إلى عدم تمرير قانون تحصين الثورة رغم امتلاك حكومة الترويكا للأغلبية. صحيح أن ذلك قد تم على وقع الإحتجاجات، وعلى وقع اغتيالات سياسية وعمليات إرهابية، كادت تعصف بالمسار برمته، ولكن، عدم تمريره جنب البلاد مخاطر أشد، كالذي آلت إليه الأوضاع في بلدان الربيع العربي.
كما تعتبر الثورة التونسية، استثناءا من الواقع (بلدان الربيع العربي). لئن سقطت ليبيا في صراعات حزبية، وقبلية، انزلقت إلى حرب أهلية، تسلل من خلالها الإرهاب، ليزيد الوضع تعقيدا. فإن العسكر في مصر تكفل بإنهاء التجربة الديمقراطية الوليدة، لينتج حالة من الإستبداد والعسكرة أضرت بقيم المواطنة، وبوضع الحريات، وقضت عل مدنية الدولة. أما في سوريا، فقد استطاع بشار الأسد، وبتدبير من حلفائه، من الغزاة، استدراج الثورة إلى مربع العنف، وأطلق في البلاد أيدي العصابات الإرهابية، بما يوحي وأن البلاد في حرب أهلية، اتخذها سفاح الشام ذريعة للقتل والإبادة الجماعية، مرة بذريعة المحافظة على وحدة سوريا في وجه دعاة التقسيم، ومرة أخرى بذريعة مقاومة الإرهاب. وهو في الحقيقة إنما، فعل ما فعل لإنقاذ رأسه وطائفته العلوية، وتفلتا من مطالب ثورة، كانت بدايتها سلمية، عبر من خلالها الشعب السوري عن أشواقه لقيم الحرية. وفي اليمن السعيد الذي لم يعد سعيدا منذ أن حكمه “المحروق” علي عبد الله صالح، الذي استطاع وبتحالف مع المليشيات الحوثية، رعته دولة “الملالي” وأمين المليشيات الطائفية “حسن نصر الله” الإنقلاب على المسار الثوري في البلاد، وأشعلوا حربا أهلية أكلت الكثير ومازالت من أرواح اليمنيين، وعمقت جراح البلد، ودفعت بازماته إلى مزيد من التعقيد.
وسط هذه الأجواء القاتمة، والدموية، يبدو الوضع في تونس أفضل، حيث لم ينزلق الصراع الفكري والسياسي، رغم حدته في بعض الأحيان إلى ما هو أخطر. وما يحسب لحكومة الترويكا، والمنظمات التي انخرطت في الحوار الوطني، أنهم أسقطوا خيار العنف الذي لوحت به الثورة المضادة في اعتصام الرحيل استنساخا للتجربة الإنقلابية في مصر، من خلال جرها إلى انتخابات حرة، واستكمال بناء المؤسسات الديمقراطية القادرة على حماية المسار الديمقراطي، وقطع الطريق على عودة الإستبداد.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.