أسفاري واللغات الحية (5)
أحمد القاري
سلمت بريطانيا مستعمرة هونغ كونغ للصين نهاية سنة 1996، وذُرفت حينها كثير من الدموع في الجزيرة خوفا من أن تكون مغادرة بريطانيا إيذانا بعهد مختلف في الحكم والاقتصاد والحرية.
كان من ضمن ترتيبات مغادرة التاج منح جواز سفر بريطاني لكل من يريده من السكان وجعله حقا لكل المولودين قبل انتقال السيادة على هونغ كونغ إلى الصين.
وتمكنت الصين وبريطانيا من التوافق على شروط مفصلة حول وضعية الإقليم بعد عودته إلى “البلد الأم”. تم إقرار نظام أساسي لـ “إقليم هونغ كونغ ذي الإدارة الخاصة” وباعتبار المصطلح المستخدم هو Region فمن الممكن ترجمته في السياق المغربي إلى “جهة ذات إدارة خاصة”.
قدمت من منطقة أو إقليم يثار فيه مصطلح “جهة” و”حكم ذاتي” باستمرار. وبالتالي انتبهت بشكل خاص إلى ترتيبات الحكم الذاتي في هونغ كونغ. كان النقاش حينها نشطا حول الحكم الذاتي في الصحراء المغربية أو الغربية. وكان وما يزال يسوق باعتباره حلا مبتكرا لنزاع طال أمده حول السيادة على أقصى الشمال الغربي من الصحراء الكبرى.
الدهشة الأولى جاءت مع حقيقة أني أحصل على التأشيرة في مطار هونغ كونغ لدخول جزء من الصين ولكن لا بد من تأشيرة خاصة بالبر الصيني لدخوله. وطن واحد بتأشيرتين؟ سأكتشف لاحقا أن هناك تأشيرة خاصة بزيارة مدينة شينجين الصينية على الحدود مع هونغ كونغ وتعطى على الحدود نفسها وصلاحيتها خمسة أيام ولا يجوز لحاملها تجاوز المدينة. وأن ماكاو، وهي إقليم مشابه لهونغ كونغ، له إدارة خاصة وحكم ذاتي واسع، وكان مستعمرا من البرتغال حتى بداية 1999، له هو أيضا تأشيرة خاصة.
المفارقة أني أجنبي أدخل هونغ كونغ بتأشيرة من المطار بينما يحتاج مواطن البر الصيني تأشيرة أكثر تعقيدا لدخول هونغ كونغ. وهي تأشيرة لها شروطها. وربما يكون عليها تحديد في عدد الزيارات المسموح بها خلال السنة.
مواطن يحتاج تأشيرة لدخول جزء من بلده؟ نعم. هو إجراء ضروري لأن هونغ كونغ منطقة جذب للهجرة بسبب تميزها الاقتصادي وجودة كل أنواع الخدمات المقدمة للمقيمين. وسكانها يشكلون نصف واحد في المائة من إجمالي سكان الصين. ولا بد من وضع حواجز وتنظيم صارم وإلا غرقت في سكان لا قبل لها بتدبير شؤونهم وخدمتهم.
نظام الهجرة في هونغ كونغ مستقل عن إدارة الهجرة الصينية. وكل إدارات الإقليم مستقلة عن مثيلاتها في البر الصيني. وبسبب حالته الفريدة فإن المصطلحات المستخدمة في مجال الهجرة تم صياغتها لتناسب هذه الحالة ولا تسبب أي حرج.
في المطار تجد لوحات توجه الزوار لتسريع إجراءات ختم الجوازات: المقيمون في هونغ كونغ، الزوار من البر الصيني، الزوار الآخرون. التمييز هنا ليس بين “مواطن” و”أجنبي” وإنما بين “مقيم” و”زائر”. لان الصيني لا يمكن وصفه بأجنبي في هونغ كونغ. حق الصيني في زيارة الجزيرة مقيد بالحصول على تأشيرة والإقامة مقيدة بالحصول على ترخيص بالإقامة من إدارة الهجرة. وإذا تجاوز صيني زائر مدة الإقامة المرخصة في الجزيرة يمكن إيقافه بتهمة “الهجرة غير الشرعية” وترحيله إلى “الجانب الآخر من الوطن”.
وسط هذا التشديد بقيت نافذة هجرة مفتوحة نسبيا. فقانون هونغ كونغ ينص على أن كل مولود صيني في الإقليم يعتبر مقيما فيه. وبالتالي تقبل النساء من البر على الحضور للولادة في هونغ كونغ. ويضع ذلك حتى يومنا هذا ضغطا شديدا على خدمات المستشفيات لأن كثيرا من النساء لا تؤدين فواتيرها.
وللحد من هجرة الولادة تراقب شرطة الحدود بطون النساء. وقد عجبت مرة لأن شرطيا سأل سيدة كانت معنا في نفس سيارة الأجرة الكبيرة ونحن نعبر من شين جين لندخل هونغ كونغ، وختم الجوازات في ذلك المعبر يتم دون حاجة لمغادرة السيارة، “دو تزه” ومعناها “بطن” فمررت الفتاة الصينية يدها على بطنها لتشد الفستان الواسع المرتخي وتبين أنه ليس بطن حامل مقرب.
ويعبر بين هونغ كونغ ومدينة شينجين الملاصقة لها في البر الصيني عشرات الآلاف كل يوم وربما بلغوا مئات الآلاف في العطل الصينية. ويعتبر ترتيب دخولهم وخروجهم وتسريعه وتسهيله تحديا دائما لشرطة الحدود والجمارك الصينية والهونغ كونغية.
والمعابر الحدودية متعددة. وبعضها للمشاة وأخرى للسيارات والشاحنات. حيث تعتمد الجزيرة بشكل شبه كامل على التموين من المواد الغذائية الطرية والمياه على البر الصيني. ويقيم عدد كبير من العمال والموظفين في هونغ كونغ في شينجين. وفي الصباح والمساء ترى مئات التلاميذ يعبرون للدراسة في هونغ كونغ والعودة لبيوتهم في شين جين.
ولكل من طرفي الحدود أولوياته الخاصة. هونغ كونغ تركز على مراقبة حق الأشخاص في العبور إليها، ومنع حمل منتجات زراعية أو دواجن حية أو أي شيء يمكن أن يهدد السلامة الصحية والصينيون يحاربون تهريب السلع من هونغ كونغ. وهو تهريب يشبه الوضع الموجود في سبتة إلا أنه أقل وحشية. والعاملون فيه لا يحملون إلا طاقتهم من السلع. وعلى الخصوص يتم تهريب أجهزة الهاتف والمنتجات الإلكترونية وسلع الرفاهية المستوردة بسبب فارق الجمركة والضريبة على القيمة المضافة.
و أهم شيء هنا أن الحكم الذاتي وصل إلى درجة إقامة حدود وجمارك وعملة خاصة وميزانية ونظام اقتصادي مستقلين. السيادة الوطنية ليست مرادفا للمركزية. وليست عدوا للإبداع في إنتاج الحلول. والمرونة لا حد لها إلا حدود المصلحة.
#لغات_حية 5
حدود داخل البلد