أسفاري واللغات الحية
أحمد القاري
سافرت شهر يونيو سنة 2005 إلى دبي للمرة الثانية، للقيام بمشتريات من المعدات المعلوماتية بغرض بيعها في المغرب. كنا بدأنا بيع أجهزة الكمبيوتر و ملحقاتها قبل ذلك بسنتين وكنا نشتريها من الدار البيضاء.
لغة صناعة المعلوميات في المغرب كما هي لغة المعلوميات نفسها هي الفرنسية حصريا. وهو أمر أدركته جيدا منذ 1995 حين اشتريت جهاز كمبيوتر لأول مرة. البائعة في الشركة التي كانت تمثل آسير التايوانية، فوجئت بتحيتي لها بالعربية. ربما كان كل داخل لمقر الشركة يترك ما معه من الدارجة عند الباب. تحدثت الشابة المغربية بفرنسية صقيلة. ولم تتردد في إشعار سيجارة أثناء تقديمها لنماذج الأجهزة المتوفرة. هكذا كانت صورة الشركة الناجحة في المغرب حينها: شابة تلبس ثيابا عصرية، متزينة ومتعطرة وتتحدث الفرنسية ولا بأس بسيجارة أيضا.
لم أشتر من عندهم وإنما اقتنيت الجهاز من دار نشر كان صاحبها يشتري أجهزة من الشركة المذكورة ويعيد بيعها بعد إضافة ربحية محدودة. دفعت 17 ألف درهم مقابل جهاز من طراز 486، الجيل السابق لبنتيوم. وكان يشتغل ببرنامج دوس، وذلك قبل أن تسيطر واجهة ويندوز الرسومية على برنامج التشغيل في أجهزة بي سي.
أدركت في دبي أن رصيدي من الفرنسية لا أهمية له. وأن هذه أول مرة سأستخدم فيها ما تعلمته من الإنجليزية في سياق احترافي. سوق المعلوميات هنا يتحدث الإنجليزية بشكل يكاد يكون حصريا.
كنت أستيقظ صباحا واستخدم هاتف الغرفة في الفندق ودليل الهاتف، وبما أن الاتصالات المحلية مجانية فقد كنت أجري كثيرا من الاتصالات تمهيدا لتحديد الشركات والمحلات التي سأزورها. وكانت الإنجليزية هي لغة التواصل.
على الطرف الآخر ربما ترد عليك موظفة فلبينية أو هندية أو يجيبك بائع مصري أو إيراني. في جميع الحالات التحية هي “هيلو” والحديث إنجليزي من حيث المبدأ. وحين يكون محدثي عربيا، ربما يحول هو أو أحول أنا الخطاب إلى لغتنا الأم. لكنه كان الاستثناء لا القاعدة.
وحين نبدأ تبادل المراسلات الإلكترونية فهي تكون بالانجليزية طبعا. هذه دبي. و هي مدينة عالمية. والأمر يتعلق بتجارة المعدات المعلوماتية. إنها جميع الشروط لتكون الإنجليزية سيدة الموقف.
بل إن إجادتها وتكلف نطقها سليمة وأقرب ما تكون إلى ما نسميه الإنجليزية البريطانية أو الإنجليزية الأميركية يشعر المتحدث بنوع من التفوق على محاوريه. ويعطيه “وضعا اجتماعيا” أعلى. أو هكذا يخيل إليه.
بعد عدد من الاتصالات التي كانت تأخذ أحيانا عدة ساعات باعتبار كثرة الشركات المشتغلة في توزيع معدات الكمبيوتر حينها في دبي، وكانت هذه الصناعة في أوجها، كنت أشعر بالحاجة للخروج و رؤية المحلات والسلع بشكل مباشر. وغالبا ما أكون رتبت عدة مواعيد.
وقت الضحى في دبي شهر يونيو حار جدا. وكذلك سائر اليوم. لذلك تلفحك حرارة الشمس بمجرد مغادرة الفندق. كنت أقيم في حي الديرة. ومنه أتجه إلى خور دبي وهو قناة بحرية مرتبط ببحر الخليج. ويمكن عبوره من الوصول إلى وجهتي، شارع خالد بن الوليد، في وقت قصير بالمقارنة مع استخدام سيارة أجرة. كما أنه كان أقل تكلفة بكثير. وكان يمكنني من القيام بالمشي، هوايتي الأولى، والتفرج على شوارع الديرة الصاخبة والممتلئة طوال الوقت.
أقمت في الديرة لكثرة الفنادق قليلة التكلفة بها. وهي فنادق بسيطة تمتلئ من تجار الشنطة. يقيم فيها أشخاص قدموا للتسوق من مصر والمغرب الكبير وإفريقيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق. تجدهم يحضرون كراتين السلع وربما يفرغون بعض المنتجات من تغليفها ليخف وزنها. أو يرتبون سلعا بطريقة تجعل عدد الطرود أقل. أو يجهزون السلع لإرسالها مع واحدة من شركات النقل الكثيرة المنتشرة في شوارع الديرة.
ولكثرة عمل تجهيز السلع تجد عاملا أو أكثر مجهزا بقاطع ورق ولفافات من الأشرطة اللاصقة أمام كل واحد من هذه الفنادق، يساعد التجار في تجهيز سلعهم بمقابل متفق عليه. كما تتوفر الفنادق على مكان للتخزين المؤقت للسلع ريثما يكمل الزبائن تجهيز مشترياتهم.
هنا تختفي الإنجليزية النظامية ويحل محلها خليط من العربية والإنجليزية والهندية ولغة الإشارة. العمال البسطاء في دبي لا يكلفون نفسهم عناء تعلم “لغة الأعمال” و”لغة التكنلوجيا” وإنما يراكمون كلمات وتعابير يأخذونها بالممارسة اليومية فتكون خليطا من اللغات يسمح بالتفاهم. وهذا هو المهم.
عند شاطئ خور دبي من جهة الديرة أصعد إلى واحد من القوارب الصغيرة الكثيرة المتجهة إلى بر دبي. و هي قوارب تنقل الركاب بنصف درهم للراكب في ذلك الوقت. وهي سريعة ورحلتها ممتعة. فهي رحلة بحرية على أية حال.
يمخر القارب عباب مياه الخور، فينتعش الركاب بنسمة ريح تلطف الحرارة. وحركة الماء على جانبي القارب جميلة لمن ينظر إليها ويتأمل فيها. وغالبا ما يكون الركاب مشغولين بما يتبعهم من مهام عن هذا التأمل. فهم بين تاجر يريد الإسراع بإنجاز مشترياته، أو بائع يكافح في سوق شديد التنافسية، أو باحث عن عمل يطرق الأبواب في مدينة مفتوحة على كفاءات العالم، أو عامل بسيط عليه أن يسرع بإنجاز مهمة كلف بها حتى لا يغضب منه مشغله ويطرده.
ليس مشكلا أن توجه الشكر بالعربية أو الإنجليزية أو غيرها. ففي عالم العمال البسطاء ومحلات التجزئة والمقاهي في دبي يتم تحقيق التواصل بدون تكلف وبطريقة تشكل فيها لغة الإشارة وملامح الوجه ونبرة الصوت جزءا يكاد يكون أكثر قوة وأهمية من النص نفسه.
أنزل على شاطئ بر دبي وأتجه مشيا إلى شارع خالد بن الوليد وهو شارع محلات المعلوميات حيث مقرات شركات توزيع أجهزة الكمبيوتر وكل ما يرتبط بها. وبر دبي حي أكثر رقيا من الديرة. ويظهر على نمط بنائه وطراز عماراته أنه أحدث فشوارعه أوسع، وبناياته أكبر.
تعرض الشركات منتجات متشابهة. وأغلبها مستورد من الصين وتايوان. وتحير المنافسة الزبون وتصعب عليه اتخاذ قرار الشراء، خاصة أن البائعين لا يعتمدون قوائم أسعار محددة وإنما يبيعون بحسب ما يتاح لهم من هامش ربحية. وبالنظر إلى الضغط الواقع عليهم من مشغليهم فكثير من البائعين يبذلون مجهودا كبيرا لكسب ود الزبون والوصول لإنجاز الصفقة معه.
في واحدة من الشركات التي تعاملت معها كانت موظفة الاستقبال فلبينية، والبائع الذي تولى عرض السلع علي سوريا ومدير الشركة هنديا. لغة التواصل والوثائق بين الباعة والإداريين كلها إنجليزية. إلا أن يكون شخصان من نفس الجنسية فتجدهما يتحولان في الغالب إلى لغتهما الأم. كما يلاحظ عند حديث مدير الشركة إلى بعض الموظفين الهنود معه. وتتحول لغة التواصل إلى الخليط الذي وصفته حين يتحدثون مع العمال المكلفين بتجهيز السلع أو بالنقل والمناولة.
وقد ارتحت بالطبع للحديث مع البائع السوري بالعربية. وللهجة الشامية جمالها الخاص الذي يغري بالاستماع إليها. كان شابا متحمسا لعمله يبني عليه طموحات كبيرة شأن معظم الوافدين على دبي في وقت كانت المدينة فيه تعرف طفرة اقتصادية هائلة.
تعاملت مع محل آخر يملكه إيراني وبه باعة من فلسطين ونيجيريا وميانمار. كان سان سان، البورمي، أكثرهم عناية بالتسويق فكان يتابع معي بالهاتف والبريد الإلكتروني، ويراجع الأسعار وشروط البيع حتى نصل لإتمام البيع.
ولكن كان ظاهرا أن البائع النيجيري أكثر نشاطا. وكان يتحدث الانجليزية بلكنة يصعب فهمها بدون انتباه وتركيز معها. ولم يكن ذلك يحرجه مطلقا. كان يتحدث بصوت مرتفع. ويتصرف بطريقة قد تجعلك تحسبها عدوانية. ولكنها كانت أسلوبه في التواصل والعمل. وطوال الوقت كان يحضر طرود السلع لزبائنه من نيجيريا وغيرها من بلدان وسط وغرب إفريقيا ممن كانوا ينقلون مشترياتهم بالطائرة.
هكذا صححت فكرة أن المعلوميات فرنسية وعوضتها في دبي بإدراك أن الانجليزية سيدة لغة الكمبيوتر والتجارة. وأن الفكرة التي يسوقون لنا في المغرب منذ الابتدائي ليس لها أساس.
لكني لم أكن راضيا على شراء سلع صينية من دبي. فقررت السفر إلى هونغ كونغ لاستكشاف الفرص المتاحة هناك. اشتريت تذكرة ذهاب و عودة مع الخطوط الإماراتية. فكانت فرصة لتصحيح مكان شراء السلع، وأيضا لتصحيح كثير من أفكاري حول اللغات الحية.
#لغات_حية
الحلقة 1 دبي