كمال الشارني
أنا لا أكره بورقيبة، لكني لا أحبه أيضا، إنما أنا لا أتحدث عنه من فراغ، فقد سلمني بيديه جائزة مدرسية في بداية السبعينات في مدرسة سد ملاق، كما رأيته مرارا في مدينة الكاف وأنا طفل، يتجول على ساقيه قريبا من جامع الشرفيين حيث قصره المهيب ولم يكن معه بوليسية ولا أي شيء، كان يلبس كسوة سوداء أنيقة تبدو أكبر منه وقميصا أبيض وحذاء لامعا، معه مرافق واحد فقط عليه كل ملامح الكآبة والسلطة السرية الخائبة في هذا الوطن، صوّرت لي طفولتي أن بورقيبة يستمد سلطته من “الباكيتة” الصفراء التي يشير بها إلى الأشياء فتتغير فورا وفقا لإرادته، أحيانا يضرب بها الناس فتعوج قاماتهم هربا وهو يتذكرهم بأسمائهم ومهنهم والتي تنتهي بصفة “الحلوف”، منذ أن كان يقيم عند أخيه محمود بورقيبة الذي جاءنا ممرضا في المدينة، وكأنه لا يرضى على أحد سوى نفسه،
رأيته أيضا يجلس لبضع دقائق على كرسي من الخشب الأصفر أمام محل حلاق في رأس النهج لكي يستمع إلى الشكاوى التي لا تنتهي والتي كانت تبدو بلا حل لولا وجوده الضروري لتسيير ذلك الكون الصغير البائس، “يحيا بورقيبا” يوحي لنا أحد الأشقياء بأن نصرخ بها ونحن نتدافع لكي نراه من رأس النهج دون أن يرانا قبل أن نهرب، إلا أنه كان ينتبه لنا مبتسما مطمئنا إنما دون أن يحيّينا، كما لو كان قدرنا أن لا يكون لنا من أمل في مستقبلنا غير طول حياته وبقائه في السلطة إلى الأبد.
ومرة أخرى، كنا نتلصص عليه من أعلى قصره الذي لم يكن يحرس حدوده أحد بين أشجار الصنوبر الحلبي في زمن الغفلة والاطمئنان الكوني، لكي نراه في الصباحات التي نفقد فيها حماسنا لألعاب الطفولة، وهو يمد ساقيه وحيدا على كرسي هزاز فوق العشب الذي كان يبدو كثيفا مهذبا أجمل من حقل قمح في عام ممطر، يتشمس في حديقة القصر ويتكاسل متثائبا يخاطب أحدا لا نراه، نصرخ فيه من حيث نعتقد أنه لا يرانا “يحيا بورقيبا”، ثم نهرب كعادتنا، كنا نرى أننا نمازح هذا الرجل العجوز الهزيل الذي لا أحد منا يعرف لما علينا أن نصرخ بحياته، كان ذلك في زمن سعادة الطفولة والمراهقة الأولى،
وحين وجدت نفسي معلقا من ساقي ويدي عند البوليسية، كان السائد عندنا أن ذلك كان بفعل ورطة “يحيا بورقيبا” التي جعلت منه حاكما مطلقا فوق المحاسبة وجعلت منا “شذاذ آفاق وعاقين للأب المؤسس”، وجعلتنا أسرى عنده بالحجة الظالمة بأنه قد حررنا من فرنسا، إنما لكي يجعلنا عبيدا لنظام لا يقل سوءا عن الاستعمار، مات كثيرون قبلي تحت التعذيب حتى دون أن تكون لهم أية علاقة بالمعارضة، لمجرد الشبهة من لجان اليقظة وسيموت آخرون بالرصاص وبالتعذيب وغيره من أدوات القمع التي حولت حلم الدولة الوطنية إلى رعب وطني، فقد كثير من أهلي أملاكهم بالمصادرة وأظفارهم أو أعضاءهم التناسيلة بالكلاليب وضاع كبرياء الكبار والحجاج منهم باللطم والركل في مراكز الحرس الوطني ومقرات الشعب الدستورية، وتساءل كثيرون تحت التعذيب: “أي شيء جنينا من هذا الاستقلال الخرائي، فرنسا نفسها لم تكن لتفعل هذا بنا”،
وفي سجن الكاف المدني، كتبت له رسالة كانت تزداد طولا مع كل محنة، باسم “رسالة إلى السيد الرئيس”، باسم الطفل الذي هتف باسمك “يحيا بورقيبا”، باسم أصدقائي من الأطفال الذين تسللوا إلى قصرك في مدينة الكاف وأنت تتشمس وتمد أطرافك في بلدي مثل قط سعيد في الوطن المنكوب بالسجون والمنافي والتعذيب والقتل، إنما كانت رسالة أطول من أن يقرأها أي رئيس، حتى لو كان محررا للوطن، مجاهدا أكبر أو أية خدعة اخترعوها لكي يقتلونا، وعندما صدر ضدي حكم بالسجن لخمس سنوات ونصف من أجل احتجاجات تلاميذ يوم الرابع عشر من جويلية 1986، تذكرت بأسى كيف كنت أصرخ في طرف قصرك: “يحيا بورقيبا”، وترددت صرختي في فضاء الوطن، لم تكن صرخة، بل لعنة جيل، أكرمته بالتعليم، لكنك لم تقرأ حسابا لكرامته، لرأس مال الإنسان الحقيقي والوحيد، هي الرسالة الحقيقية التي لم يقرأها بورقيبة، والتي لم يظلمه فيها أحد.