عندما تستحيل مظاهر تعذيب السجناء وإذلال نشطاء الرأي داخل الزنازن و”العنابر” مادة للإبداع للسخرية وللتهكم من الجلادين، فاعلم أنك إزاء رواية الثقب الأسود، رواية تحدى بها عبد اللطيف العلوي أشكالا من ممارسات التعذيب والتغييب ومحو الذاكرة وكل ألوان الإقصاء والتدجين… ولكنه العنيد، كلما اعتقد الجلاد أنه تخلص من عناده وكبريائه انتفض من جديد، ليرسم مشهدية كوميدية عجيبة مربكة لقارئ ليس مهيئا أصلا لمثل تلك الصور، إذ كيف يحول الروائي الذي عاش محنة السجن بقلب الشاعر ولسان الخطيب وإحساس الرسام ونثرية القصاص القبح جمالا والسجن حرية والسواد بياضا ؟؟؟…
تجربة العلوي في الثقب الأسود تحاكي في “تراجيديتها الكوميدية” تجارب الكبار، ففي تناص لا أعتقد أنه خطر على بال الروائي عبد اللطيف العلوي، أجدني أستعيد تجربة “خليل أحمد خليل” في رواية إلياس خوري “الوجوه البيضاء”، ذلك البطل الذي ينبري يطلي الجدران باللون الأبيض عوضا عن الأسود، محاولة منه لطمس آثار الموت والخراب التي أحدثتها الحرب الأهلية اللبنانية على مدينة بيروت، في مشهد مغاير للمألوف، فالبياض يستحيل دلالة نسيان وتغييب، وتقريبا هذا ما أقدم عليه الكاتب العلوي الذي انتصر على الكل وضحك على ذقون الكل، وضمد جراح السجن وعالج تشوهات الذاكرة وتخلص من كوابيس التضييق وسهرات “علية” و”أم كلثوم” بالسخرية والتندر والفذلكة والتفكه والطرافة، معلوم أنه على حد تعبير الأستاذ توفيق بكار “ضحك كالبكاء” ولكن اعذرني أستاذنا ؛ فضحك العلوي كما بكاؤه مختلف !… فعن أي ثقب أسود تريد أن تقنعنا أيها العلوي ؟ فتالله إن الثقب الأسود قد أصاب جلاديك وجلادي رفاقك أكثر من أن يطالكم! أكاد أجزم أنك تخففت لتتفرغ لهم… فأنت الذي نمت وانبطحت ومددت لا رجليك ويديك في السجن فحسب، بل مددت كلماتك “لتنقرهم” نقرا حقيقيا “لا أعتقد أنها ستقض مضاجعهم فقط، بل ستستحيل كوابيس لن يهنؤوا بنوم هادئ بعدها وستتحول إلى مطرقة تدك ذاكرتنا، وسنحرم النسيان الذي خلنا أننا أصبحنا ننعم به لو لا “فدوى” و”الماص”…
ختاما أقر أن نصك مربك محرك لسواكن خلنا أنها لن تتحرك، لقد أعدت للكلمة معناها وللرواية جدواها… فهل كسر العلوي مقولة أن الرواية بنت المدينة ؟ رواية الثقب الأسود كسرت كل الحدود ولكنها لم تخيب أفق التوقع بل أدهشتنا في عصر كدنا نجزم أن سحر الكلمات فيها قد ولى مع العمالقة الكبار.