موْسِم الهرْولة إلى قبر بورقيبة و إرثه

منجي باكير

بورقيبة، هذا الرّجل الذي نحت إسمه في حقبة من تاريخ تونس الحديثة، بورقيبة الذي امتاز بكاريزما اختفى معها -قسْرا- كلّ حضور آخر، بورقيبة الذي سعى جاهدا لتكريس هذا التوجّه بمساعدة كثير من المتمعشين من بلاط قرطاج والخانعين لسطوة دكتاتوريته والممتثلين طوعا وكرها لسياسته من شاغلي المشهد الإعلامي الوحيد آنذاك والخادمين عماءً وطمعا وجهلا لتنظيرات (الزّعيم) من أنصار الحزب الحاكم الأوحد، بورقيبة الذي ساعدته ظروف الجهل والأميّة والتأخّر الإجتماعي والإقتصادي لشعب رزح تحت ظلم الإستخراب الفرنسي وجبروته ومن قبله سياسات البايات العقيمة والمفقّرة وجد البيئة المناسبة والحاضنة المساعدة لخلق (أسطورة) الزعامة والصعود إلى أعلى هرم السّلطة بسلاسة تغذّيها حنكة ودهاء سياسي ويسندها بطش سلطوي بمرجعيّة واحدة ووحيدة، يقابله ضعف وخوف ورعب عند كلّ من حاول الوقوف في طريق الرّجل أو حتّى حدّثته نفسه بمجاورة شخصيّته ومحاكاتها بعد ما اعتبر (الكلّ) من مصير الذين سبقوهم في سلوك هذا النّهج أو معارضة -توجيهات الرئيس- والتاريخ لم يجفّ حبره بعد.

هذا ما كان عليه بورقيبة، يدفعه شغف التميّز ونرجسيّة جامحة لتحقيق أحلامه التي كانت تراوده للإمساك بدفّة القيادة في عالم السياسة سواء التونسي أو العربي أو حتّى العالمي وهو ما لم يوفّق فيهما كما كان يحلم.

لكن هناك ما يُحسب للرّجل أنّه كان يمتاز بحسّ وطني تولّد أساسا من رغباته التي تتوق إلى تحقيق -كثير من الصّعاب- والتي اعتبرها دوما مؤشّرات لنجاحه قبل أن يكون لها حسابات الأثر الإيجابي على البلاد والعباد فسعى لها سعيا ووظّفها أيّما توظيف في مجتمع غارق في الجهل والفقر والأمّية إلاّ من بعض النّخبة التي أقصاها هذا الزعيم -الأوحد- والمجاهد الأكبر- أو غيّبها نهائيّا عن السّاحة فخلا له الميدان وكان له ما أراد ومن وراء ذلك كانت بعض تلك المكاسب للبلاد.

بورقيبة لازم اسمه في -قداسة- فرضها هو ووطّد أركانها سدنة نظامه طيلة عقود من الزّمن، فلا اسم يعلو على إسمه ولا ذكر للبطولة بدونه ولا فضل على البلاد والعباد إلاّ له دون سواه، كتب له -الكاتبون- وفصّلوا تاريخ الحركة الوطنيّة على مقاسه، وطبّل له المطبّلون ليبرّؤوه من احتمال الخطإ وسوء التقدير حتّى أنّ حاشيته ومن عاصر حكمه من سواد النّخبة غضّوا الطرف عن ما حصل منه من انتهاكات للشريعة والدّين والأخلاق بل منهم من باركها وأيدها واعتبروها إلهامات واستشرافات حداثيّة.

طبيعي أنّ الجيل الذي حكمه بورقيبة وبالخصوص الذين تقلّدوا مناصب في الدولة في عهده، طبيعي أن تتملّكهم عقدة (الرجل الأوحد) وأن تنتفي من شعورهم وكذلك اللاّشعور كثيرا من قيم المبادرة وإبداء الرأي والإستقلال بالقرار في ظلّ (عبقريّة المجاهد الأكبر) الذي لا تضيع منه شاردة ولا تفلت منه صغائر الأمور فضلا عن كبارها وهو -المهندس الأوحد- وصاحب القرار الأوحد والمفكّر الأوحد…! كذلك من الطبيعي أيضا أن يحسّ بعضهم -باليُتم- من بعده، وطبيعي أن يحسّوا بالإنفصال عن ماضيهم الذي زيّفته سياسات الزّعيم ومحت منه كلّ ذكر لأمجاد البلاد ورجالاتها وفسخت من بين صفحاته كثيرا من عناوين الهويّة وغرّبت الشعب عن دينه واستعاضت عنه بمُثلات العلمانيّة واللاّئيكيّة وبركات البوّابة الغربيّة…

أيضا من الطبيعي اليوم أن ينفخ البعض ممّن بلغوا سنّ اليأس السياسي ومن عاضدهم من المفلسين والذين يريدون -تبييض- إجرامهم ولصوصيتهم طيلة الفترة البنفسجيّة في رماد -البورقيبيّة- لتعويض ذلّهم القديم ولينشدوا بعضا من استرداد كراماتهم التي طالما -تمرمْدتْ- على أرضيّة قصر قرطاج من طرف رجلهم الأوحد وحرمه المصون،، وفي محاولة يائسة لقطع -التذكرة الأخيرة- في قاطرة التاريخ أو لبناء مستقبل سياسي جديد.

بورقيبة مات، أمره وأمرنا موكول إلى الله، فهلاّ ترجّل الراكبون على البورقيبيّة، هلاّ تخلّصوا من تلك -الفوبيا- المزمنة ونزعوا عن أعينهم أغشيتها ليقرؤوا التاريخ بلا تزييفات، بل هلاّ كفّوا عن هرولاتهم ونفاقاتهم إلى قبر بورقيبة وإرثه مع كلّ مناسبة وعند كلّ استحقاق انتخابي..!؟؟

هلاّ وعى هؤلاء الرّاكبون على البورقيبيّة أنّ التاريخ لا يجامل ولا يعادي، وأنّ أنظمة الحكم لم تعد تلك التي تُدار بدماغ واحدة ولا بمجرّد كاريزما مبهرة، وأنّ سياسيو العصر لا يعتمدون أبدا على أرصدة الولاء والإحتماء بجلباب الأسلاف، لكنّهم يصعدون بالديموقراطيّة ويحكمون بقدر إتقانهم للفعل السياسي وقوّة امتلاك ناصية التغيير من خلال الفهم الصحيح والإدراك السّليم للواقع.

Exit mobile version