تدوينات تونسية

‎هل السياسة نجاسة ؟

سامي براهم
تجوب المدوّنة التّراثيّة طولا وعرضا على اختلاف مجالاتها وعلومها ومعارفها ومذاهبها ومدارسها واختصاصاتها وحقبها التاريخيّة بما توفّره لك التكنولوجيا الرقميّة من محرّكات بحث فلا تجد في تعريف السّلف والخلف وتابعيهم للسياسة من يسمها أو يصمها بالنّجاسة أو الفعل النّجس أو المُنَجِّسِ، رغم التّحذير الوارد في هذه المدوّنة من جور الحكّام والتنفير من الوقوف بباب السّلطان ومصاحبة أهل الصّولجان وتهيّب أهل الصّلاح من المناصب خاصّة القضاء خشية انتهاك حقوق النّاس.
ولكن لا تجد البتّة من يستقذر السياسة ويعدّها من النّجاسات أو الخبائث أو الرّجس الشيطاني الذي يجب اجتنابه والتوقّي منه.
من أين جاء إذا هذا الوصم للسياسة بالنّجاسة وللسياسيين بالأنجاس ؟
هو من آثار السياق المسيحاني الذي قسّم الحياة والعالم والوجود إلى فضاء روحي طاهرٍ مقدّسٍ متعالٍ وفضاءٍ زماني أرضي نجسٍ مدنّسٍ.
وفاضل بين الفضائين رغم سطوِ المؤسّسة الدينيّة الرسميّة ممثّلة في الكنيسة الكاثوليكيّة على الفضائين من خلال تحالفها مع المؤسّسة الملكيّة طيلة القرون الوسطى وممارستها أبشع الانتهاكات.
وهو كذلك من آثار خطاب العلمنة لتبربر الفصل بين الدّين والسياسية، حيث دعا أهلَ الدّين إلى عدم تدنيس الدّين بنجاسة السياسة حتّى يحافظ الدّين على طهرانيّته وصفائه ونقائه وتبقى السياسة مجالا خالصا للسياسيين يمارسون فيه اللعبة السياسيّة القذرة ومناوراتها.
وهي تصوّرات غريبة عن سياقات التمثّل التراثي لإدارة الشّأن السياسي حيث يحيل لفظ السياسة في المعجم العربي على حسن التّدبير والرّياضة والترويض ورعاية مصالح النّاس وإصلاحهم.
وقد دخل لفظ السياسة في عناوين المؤلفات في القرن الرّابع للهجرة ليحيل على فنّ من فنون المعارف والعلوم التي صنّفت ضمن الحكمة العمليّة في كتب تصنيف العلوم وإحصائها.
‎ومنهم من ربط بين السّياسة والدّين مثل ابن سينا، حيث اعتبر هدف السياسة من حيث هي فرع من فروع الحكمة العملية الوصول إلى خير الإنسان في دنياه وآخرته.
ومنهم من لم ير ذلك مثل الفارابي الذي يرى أنّ العقل كفيل بتحقيق الفضيلة وصنّف السياسة ضمن العلم المدنيّ الذي يضبط أنواع الرياسة والسياسات والاجتماعات المدنية وأحوالها.
ومهما اختلفت التمثّلات والمفاهيم لم تنفصل السياسة أبدا عن الأخلاق والحكمة والفضيلة في كتب تصنيف العلوم واصطلاحات الفنون بل ذهب الغزالي إلى اعتبارها أشرف العلوم.
ولم يشذّ الفقهاء والأصوليّون وعلماء السياسة الشرعيّة عن هذا المعنى حيث أورد ابن عقيل وهو فقيه حنبلي في تعريف السّياسة أنّها:
“ما كان من الأفعال بحيث يكون ‎الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي”
السياسة إذا فعل شريف ومهمّة نبيلة تقرّها العقول والأديان طالما لم يداخلها تسييس للمقدّس وإضفاء قداسة على الكسب البشري في إدارة الشّأن العامّ ولم تتحوّل الى جور وقهر وتسلّط على رقاب النّاس وتنفّع وفساد وإفساد في الارض.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock