أهمية الوازع الديني في الحياة السياسية الأمريكية
ليلى الهيشري
أسفرت الانتخابات الأمريكية في أواخر 2016،عن تربع ممثل الحزب الجمهوري دونالد ترامب على عرش الرئاسة في الولايات المتحدة ومنذ توليه المنصب الحالي، بادر ترامب إلى تنفيذ احدى وعوده الانتخابية المتعلقة بمراجعة قانون الهجرة فاستهل مهامه بإصدار قرار أثارا جدلا واسعا في الرأي العام العالمي باعتباره قرارا غير إنساني يتسم بالعنصرية تجاه بعض اللاجئين المنحدرين من 7 دول، يرى أنها تشكل خطورة على الأمن الأمريكي دون مراعاة لما قد يعيشه هؤلاء اللاجئون من مخاطر تهدد حياتهم، بل انصب اهتمامه فقط على مطامع سياسية وحزبية ضيقة لا تناسب مكانة الولايات المتحدة في العالم.
لقد عمت العالم حالة من الذهول لوصول شخص مثل ترامب إلى منصب رئاسي وتساءل العديد من المحللين حول أسباب مجازفة الحزب الجمهوري في اختياره هذا المرشح بالذات؟
لمعرفة الإجابة، وجب البحث في أعماق السياسة الأمريكية. فقد عرفت الساحة السياسية الأمريكية صراعات إيديولوجية أدت إلى خلق توافقات حزبية تبلورت في إخراج سياسي “عقلاني” مبني على التوازنات الاجتماعية للحفاظ على استقرار القوة الأمريكية، فتم إرساء سياسة حزبية ترتكز على قطبين كبيرين يقومان بالتداول على منصب الرئاسة بالاعتماد على منطق انتخابي يتسلم مقاليده الشعب الأمريكي من خلال عنصرين أساسيين يتمثل الأول في تقييم الحلول المطروحة لمعالجة الاهتمامات الكبرى للمجتمع الأمريكي ويتمثل الثاني في تقييم شخصية المترشح للرئاسة ومدى قدرته على تسيير الدولة.
في الحقيقة، كان للمجتمع الأمريكي دورا كبيرا في خلق هذه الموازنة الثنائية مدة عقود مضت، تم فيها رصد حالة من شبه التداول على منصب رئاسة الدولة الفدرالية بين حزبين كبيرين يتمتعان بدعم شعبي، تحكمهما كوادر حزبية محترفة فضلا عن الدعم اللوجستي والمادي الكبير لكليهما، لتجعل من كل حزب حكومة قائمة الذات قادرة على تسيير دولة فيدرالية تجمع 50 ولاية بكل احترافية ونجاعة، لذلك، اعتبر مؤرخو التاريخ السياسي الأمريكي أنه مجتمع عرف بارتباطه الوثيق بالدين المسيحي، كدين يمثل غالبية الشعب حيث توضح لدى العديد من المحللين السياسيين أن هناك قوة سياسية استطاعت السيطرة على مجريات النتائج الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية تعرف باليمين المحافظ أو اليمين المتشدد تكتسب قوتها من تأثيرها على المجتمع المتمسك بالعقيدة، تلك الضامن الوحيد لترسيخ القيم الأخلاقية، بالحث على ترسيخ المبادئ الدينية في الممارسات اليومية كجزء من هوية المواطن الأمريكي المثالي.
لم تؤسس التيارات المسيحية المحافظة والمتشددة، رغم أهمية نفوذها ومواردها، أية هيكلة سياسية واضحة منذ العشرينات لتتفرغ إلى الأنشطة الاجتماعية والخيرية والتعليمية، ولم تشهد الساحة السياسية عودة حقيقية لهذه التيارات المحافظة إلا في مرحلة السبعينات عندما تيقنت أن تفتح المجتمع الأمريكي للمبادئ “العلمانية المادية” سيؤدي حتما إلى تفسخ المبادئ الأخلاقية في المجتمع، واعتبرت أن ظاهرة المزج بين الأعراق تشكل خطرا على الخصوصية المجتمعية الأمريكية في الستينات فضلا عن قيام الحكومات أنذاك بتبني هذا التوجه الإصلاحي العلماني من خلال منع الممارسات العقائدية كالصلاة في المدارس والمؤسسات الحكومية باعتبارها لا تقتصر على فئة عقائدية معينة، ولعل قضية إنجيل ضد فيتالي سنة 1962 كانت أهم رد للحكومة، أكدت فيه على ضرورة منح الاستقرار للأقليات الدينية الأخرى المتواجدة فوق التراب الأمريكي. وازدادت مظاهر الانسلاخ عن المبادئ الدينية ببادرة المجتمع النسوي بثورة نسوية حقوقية شاملة عرفت نجاحا باهرا، اعتبره المتشددون خرقا للمبادئ الجوهرية للمجتمع المسيحي المتدين من خلال استهدافه لمنظومة الزواج المسيحي.
شكلت عودة التيارات اليمينية المتشددة في الساحة السياسية تغيرا في نتائج صناديق الاقتراع خاصة فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية لما لها من أهمية تتمحور في اختيار الشعب للنظام الرئاسي الذي يولي أهمية كبرى لخطة رئيس الدولة. وقد نجح الحزب اليميني في مرحلة نيكسون في استقطاب أصوات الرافضين للمزج العرقي بين البيض والسود من خلال وعوده الانتخابية سنة 1972، حيث لقي اهتماما واسعا من اغلب سكان الجنوب الأمريكي الذي يمثل ملايين من البيض المسيحيين المحافظين والمتشددين عقائديا، وقد وجدوا في ذلك الحزب في فترة السبعينات ضالتهم، إذ شملت وعوده الانتخابية بعض الإصلاحات الاجتماعية المبنية على العودة إلى القيم التقليدية للمجتمع الأمريكي وذلك حسب تعاليم الدين المسيحي بعد عقود من التقوقع والتراخي في الاهتمام بالسياسة والتفرغ للحياة العادية وقرروا العودة في السبعينات لمواجهة ظاهرة “النزعة الإنسانية العلمانية” التي تهدد انتماءاتهم وعقيدتهم ومبادئهم من خلال سياسة الحكومة العدائية تجاه الإيمان.
ولم تعرف حملة المسيحيين المتشددين ضد علمنة الدولة نجاحا باهرا وفعليا إلا في الحملة الانتخابية لرونالد ريغن، حيث ساهمت بكل قوتها في التأثير على الناخبين مستغلة كل المؤسسات الاجتماعية التي تقبع تحت سيطرتها لتدعيمه وكانت نتائج الانتخابات سنة 1980 إعلانا رسميا لظهور قوة يمينية متدينة في الحزب الجمهوري وتجسد ذلك عبر ما يعرف “بثورة ريغن 1980”.
وفي مواجهة الفترة الذهبية للنفوذ السياسي للتيارات اليمينية المنضوية تحت لواء الحزب الجمهوري في ظل غياب هيكلة حزبية تمثلهم في الساحة السياسية، حاولت التيارات اليسارية مواجهة المد اليميني بخلق ما يعرف باليسار المتدين، ويعود ذلك لما جاء على لسان المؤرخ الأمريكي فرانك لامبرت الذي اعتبر أن “صعود اليسار المتدين قام في جزء منه على الاعتقاد أن اليمني المتدين أخذ في الضعف وفي الوقت نفسه يأمل قادته في تقليد اليمين المتدين عن طريق حشد المؤمنين الذين يرغبون في رؤية جانب روحي في الساحة العامة ولكنهم يعارضون المنهج الأخلاقي لليمين المتدين” ولقد انعكس ذلك التجديد في اليسار إلى تدعيم بعض التيارات المتدينة المنسوبة إلى اليمني المتدين في انتخاب ممثل الحزب الديمقراطي جيمي كارتر سنة 1977.
استطاع الدين على امتداد التاريخ الحديث للولايات المتحدة أن يكون العنصر المميز للساحة السياسية، وقد يعد ذلك بمثابة الحوار الحضاري البناء بين الدين والسياسة، الذي يخلق مساحات التقاء إيجابية تعمل لخدمة المصلحة الوطنية الأمريكية مع مراعات خصوصية تنوع الأعراق والمعتقدات، إذ تشهد الصراعات الانتخابية الحضارية بين التيارات الداعمة للتواجد الديني في الحياة اليومية والسياسية للمواطن الأمريكي وبين التيارات الرافضة لهذا التدخل الروحاني في الحياة المدنية، على نجاح العالم السياسي في الاندماج مع الروحانيات دون الانزلاق في التناحر السلبي الذي يضعف الدولة، ولم يتمكن المجتمع الأمريكي من إنجاح سياسة تفرقة جذرية بين المجالين الديني والسياسي، مما اسند للتيارات الدينية صفة المسيطر الخفي والناشط البارز في نفس الوقت لعقود طويلة، وأدت تلك الصراعات الندية بين قوتين متساويتين في الساحة السياسية إلى خلق شبه اتفاق يتم بموجبه تبني هيكلة ثنائية قطبية لحزبين كبيرين يمثلان كل المجتمع الأمريكي، وهي توازنات تحولت إلى تقليد أمريكي مستساغ ومناسب لخصوصية المجتمع، يضمن التنوع والاستقرار، ظهرت تجلياته في الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي.
لذلك تركزت النزاعات السياسية بين الحزبين لمدة طويلة على الشأن الداخلي الأمريكي على تأصيل النقاشات الإعلامية المتعلقة بالأخلاق والمؤسسة العائلية والتربية والتعليم والدفع نحو ضرورة العودة إلى تعاليم الدين المسيحي مكتفية بملفات داخلية بحتة، ومع تطور الأحداث في الساحة العالمية أولت السياسة الأمريكية أهمية كبرى للأمن القومي الذي أصبح شماعة فيما بعد لأخطاء الحكومات الأمريكية في تعاطيها مع هذا الملف.
ومنذ تولي جورج بوش الأب رئاسة الولايات المتحدة عرفت السياسة الخارجية منعرجا خطيرا كشف عن مخططات توسعية تستهدف منطقة الشرق الأوسط، شرع في تنفيذه مع قيام العدوان العراقي على الكويت وتبعات قرار مجلس الأمن في استعمال القوة العسكرية لتحرير الكويت سنة 1990، حيث قامت الولايات المتحدة بوضع حجر الأساس لسياسية خارجية أمريكية تجيز التدخل اللا مشروط في الشؤون الداخلية للدول العربية والمشرقية باستعمال ما يعرف “بالقوة الصلبة” المتمثلة في التدخل العسكري، بعد أن اقتصرت لعقود على استعمال “القوة الناعمة” والتي تتمثل حسب راي احد المحللين السياسيين التونسيين في إغراق الأسواق العربية والمشرقية بالبضاعة الأمريكية ومحاولة التأثير على المجتمعات العربية من خلال تمرير الأفكار والتوجهات السياسية الأمريكية، ولم تلقى من الشعوب رغم كل تلك المناورات سوى الفشل الذريع، فقد كانت العراق بمثابة الخندق الذي كلف حكومة جورج بوش الأب خسارة الانتخابات الرئاسية لسنة 1992، ويعود ذلك لتغير المعادلة في كسب الانتخابات، فلم يعد الحزب الجمهوري قادرا حسب المؤرخين السياسيين الأمريكيين على اعتماد افضليه الوازع الديني، بعد أن تفطن الحزب الديمقراطي لأهمية إدماج المبادئ العقائدية والأخلاقية في الحياة السياسية، فعمل على إدماج هذا العنصر لتدعيم حضوضه أما الحزب الجمهوري. وتحولت الحلبات الانتخابية الإعلامية إلى معيار مؤثر في الجمهور الناخب في تقرير مصير المترشحين للرئاسة الأمريكية.
واستمرت نجاحات الحزب الديمقراطي، على المستوى الخارجي باستراتيجية اكثر اعتدالا منذ تولي بيل كلينتون الرئاسة سنة 1992 فعمد إلى تحييد الدور الأمريكي في صراعات الشرق الأوسط، ورغم تقيده بسياسة الدعم المباشر والتام للكيان الصهيوني، استرجعت حكومته سياسة القوة الناعمة عبر محاولاتها المحتشمة حلحلة القضية الفلسطينية لاستقطاب الرأي العام العربي، ولكن لم تعرف السياسة الخارجية المرنة لحكومة بيل كلينتون استحسانا شعبيا عربيا إلا في أوساط الحكومات الخليجية، في فترة من الاستقرار النسبي للشرق الأوسط تواصل لسنة 2000.
وأمام تنامي الوعي الشعبي الإسلامي بتحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى عدو مباشر للمسلمين واستماتتها في الدفاع عن الكيان الصهيوني، تعرض العم سام إلى اعتداءات تبناها تنظيم القاعدة وذلك بتاريخ 11 سبتمبر2001، اطلقت حكومة جورج بوش الابن حملة عالمية لمكافحة الإرهاب وآذن ذلك ببداية عهد جديد من الحروب الظالمة على بعض الدول الإسلامية، انطلقت من أفغانستان لتصل إلى العراق، وكشفت هذه الحروب عن فضيحة أخلاقية في سجني ابوغريب وغوانتنامو، كشفت بعد التحقيقات الإعلامية والسياسية عن مخطط استعماري وانتقامي للحزب الجمهوري قاده نخبة الصقور لغزو العراق وتركيع العالم العربي باعتماد التضليل الإعلامي وفبركة التقارير الأممية لتشريع حرب العراق سنة 2004.
تعتبر الحرب التي تزعمها جورج بوش الابن ضد بعض الدول الإسلامية بدعوى مكافحة الإرهاب بمثابة حرب صليبية قادها التيار اليميني المتطرف العائد بقوة إلى الساحة السياسية، وشكلت أحداث سبتمبر 2001 الدرع الذي حمى صقور الحزب الجمهوري من الانتقادات والاتهامات، ولم يكن ذلك سوى عينة عن القدرة الحقيقية للتيارات اليمينية التي اتخذت من الأمن القومي الأمريكي مطيبة للوصول إلى أهدافها غير المعلنة.
أثارت النكسات العسكرية التي أصابت الجيش الأمريكي والأكاذيب المخابراتية غضب المجتمع الأمريكي، فحاول الإعلام المأجور تشتيت الرأي العام الأمريكي وتحويل اهتمامه إلى ملفات وطنية داخلية تدعو إلى تدعيم قيم التسامح العرقي والحضاري استغلها الحزب الديمقراطي الذي رشح محاميا ذا بشرة سمراء، شكل نجاحه في الانتخابات الرئاسية لسنة 2008 انتصارا غير مسبوق للمواطنة على العوائق العرقية والدينية التقليدية.
ومنذ سنة 2011 عرف العالم موجة من الثورات العربية، الناجحة على غرار تونس والفاشلة على غرار سوريا وليبيا إلى خلق تنظيمات ووحدات إرهابية قامت بتجنيد الشباب ودفعهم للقيام بعمليات إرهابية في العديد من الدول الغربية وخاصة الدول التي استقبلت عددا كبيرا من اللاجئين السوريين، وهي مخاوف تناولها المرشحون لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في حملاتهم الانتخابية ولقد كان ملف الهجرة من الملفات الساخنة التي أثرت على رأي الناخبين باعتبارها ذات علاقة وطيدة بالأمن القومي الأمريكي، ولم يكن قرار ترامب سوى تنفيذ لوعده الانتخابي بمراجعة قوانين الهجرة الأمريكية والتشديد في إجراءات قبول اللاجئين الذين قد يهددون امن الولايات المتحدة الأمريكية.
لذلك كان من المهم، استعراض خصوصية الساحة السياسية الأمريكية في التاريخ الحديث، كشاهد على أهمية الوازع الديني في استقطاب الجمهور الناخب في الحياة السياسية كشرط أساسي لنجاح أي حزب سياسي أمريكي وضمانة لاستمرارية التواجد في الساحة السياسية باعتباره شرطا من شروط الهوية الوطنية الأمريكية التقليدية.