النّبوغُ العِلْمي في الزمن الرديء.. من يَحميه ؟
عبد القادر عبار
كان هذا عنواناً لمقالٍ لي، كتبته عام 1990 على هامش محاكمة البروفيسور المرحوم “منصف بن سالم”، ونشرته مجلة “المجتمع” الكويتية في عددها 973 /صفحة 42 و43، أستعيره اليوم (العنوان)، على هامش اغتيال الشهيد المهندس الدكتور “محمد الزواري” رحمه الله، للحديث عن مأساة ومعاناة العقل العلمي في العالم الثالث وتونس نموذجا، وتكرار مشاهد الاغتيال المجاني للنابغين، واللامبالاة بكذا جرائم من طرف الجهات الرسمية.
عملية اغتيال مهندس الطيران الكهل “محمد الزواري” في وضح النهار، وفي الطريق العام، وأمام منزله، تفضح غياب هيبة وسيادة الدولة، وتقصيرها في حماية مواطنيها، والتقنية الإجرامية العالية والحرفية القديرة للمجرمين الذين رتّبوا كل ما يساعدهم على الانجاز السريع والمحقق للهدف بأقل الخسائر من جانبهم، وبدون التورّط المباشر، وهذا لا يمكن أن يحصل إلا بدعم واحتضان ومتابعة من طرف أجهزة مخابرات دولية متمرسة ومحنكة في تنفيذ مثل هذه العمليات القذرة التي لا يستطيعها المتربصون والهواة والمغامرون الصغار.
المهندس النابغة الشهيد “محمد الزواري” رحمه الله ليس الأول ولن يكون الأخير في روزنامة المتربّصين والمُستهدِفين لأي ظاهرة نبوغ عربي، وتميز إسلامي، فالقائمة طويلة.
اذ لم تتوقف عمليات اغتيال العقول العلمية والأكاديميين البارزين العرب والمسلمين طيلة العقود الماضية، وقد رصدت دولة العدو الصهيوني لتلك العمليات الدقيقة أجهزة ومعدات ومتخصصين وخبراء، وأموالا طائلة، ليقينها بأنها صيغة من صيغ الحرب المستمرة، وأنها جزء من الحرب النفسية ضد الشعوب العربية، بالتخلص من العلماء وترويعهم، وإجبارهم على الهجرة إلى الغرب، حتى لا تستفيد أوطانهم من عبقريتهم وطاقاتهم.
البَخْسُ الإعلامي
البَخْسُ الإعلامي للنابهين، جريمة يمارسها الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، بصيغ شتى، تشويها، وتعتيما، وتزويرا، فالإعلام عندنا نراه يستكثر حتى ذكر اسم “الشهيد” على من يستحقه شرعا وعُرفا وقانونا، كشهيد العلم “محمد الزواري” رحمه الله، وينعته بالهالك، والمقتول وهذا فيه سُبّة، بينما نراه يلصقه ويلحّ على إلزامه لمن لا يجوز لهم شرعا، وذلك لتضخيمهم، وإضفاء قدسية عليهم، وإبرازهم كرموز وطنية، فخبر استشهاد العلماء يمرّ في شاشاتنا، باهتًا وعلى استحياء، بينما لا يُصاب نجم رياضي كروي، ولا تتوعّك صحة إحدى عاهرات الفن، إلا وتنشط ماكينة الإعلام حتى تُقرف المشاهدين بأخباره، وتعمل المستحيل للنفخ في صورته، وذكر دقائق سفاسفه، وأيامه، وانجازاته، وتراها لا تهمل حتى رقم حذائه، أو نوع عطورها.
الهمْزُ واللّمْز الاجتماعي
يظهر ذلك في المهزلة البائسة التي أعدّها وأخرجها أحد الإعلاميين، المالك لإحدى القنوات، حيث استنفر معه بعض رموز التفاهة والرداءة والنذالة، واختار جانبا من جوانب سيرة عالم الرياضيات المرحوم بإذن الله البروفيسور “المنصف بن سالم” مظهرًا للسخرية، والتندّر، فأقاموا بيعا بالمزاد العلني “للمعدنوس” الذي كان يسترزق بإنتاجه وبيعه البروفيسور، عندما حاصره النظام الظالم، في معاشه ومرتبه، وظنوا أن التندّر بالمعدنوس سيحطّ من قيمة العالِم ويشوّه سمعته العلمية، ويبرزه للناس في صورة كاريكاتورية ولم يعلم التافهون الحاقدون، أن الرجل رحمه الله، كان شهْما، وعزيز النفس، عندما فضّل الكسب اليدوي، والعمل الزراعي، رغم إنتاجه ومردوده البسيط، على التسوّل على أعتاب المستكبرين، وأنه أحفظ لماء الوجه من التمَسْكُن والتذلل لحاكم لا يقدّر العالم ولا العلم حق قدره.
الإقصاء عند التكريم الرسمي
في عيد المرأة شاهدنا انحيازا فاضحا وواضحا في التكريم حيث غابت الجديرات والمتميّزات، وحضرت بدائلُ باهتة، أقل ما يقال فيهنّ أنهنّ من الراسبات، ولم يكنّ من المجتهدات ولا يرتقين إلى التميّز، حتى يُوَسّمن ويُحْمَدْن بما لم يُنجِزْن.
بينما نرى دكتورة وطنية، عالمة ومخترعة، لها حضور دولي، وصيت عالمي، ويعرفها أهل العلم والبحث والاختراع، وهي الدكتورة “حياة العمري” تُقصى من كذا تكريم وتوسيم، نظرا لانتسابها السياسي، وحتى لا تكون قدوة وأسوة للشباب.
متى تعتدل الصورة ؟
الاستحقاق الحضاري، والحضور الدولي الواعي، لا يمكن أن يتوفّرا للوطن إلا بعقول أبنائه، تنميةً واستثمارا، ولا يمكن للعقل العلمي أن ينتج ويبدع، ويبتكر، ويخترع وينافس، إلا في بيئة يتوفر فيها الأمن النفسي، والأمن المعيشي، وفي مناخ من التوقير الاجتماعي، والاهتمام الرسمي، والرعاية الإعلامية النزيهة.
لقد خسر هذا الوطن الكثير من طاقاته العلمية التي تألّقت عالميّا، ولكن كان حظها في بلدها البخْس، والإهمال، واللامبالاة، منها على سبيل المثال لا الحصر الدكتور بشير التركي والبروفيسور منصف بن سالم، والشهيد محمد الزواري.. رحمهم الله جميعا وشكر سعيهم.
والسؤال القلق هو : كيف نحمي عقلنا العلمي ؟ وكيف نوظف ونستثمر النبوغ العلمي في ظرف التحدي الحضاري الراهن؟