مقالات

طقوس العبور ووزير الداخلية الأسبق

محسن سوداني

في كتابه “مجتمع اللادولة” يتحدث بيار كلاستر عن الطقوس التي تنظمها إحدى القبائل في المجتمعات التقليدية كلّما أقامت احتفالا ببلوغ الفتيان والفتيات فيها سنّ الرشد. وتسمّى طقوس العبور لأنها تعلن رسميا عن انتقال الفرد في تلك القبيلة من سنّ المراهقة إلى سنّ المسؤولية. إنه عبور من الطيش إلى الرشد.

أما الطقوس فإنّ مجملها يدور على اختبارات قاسية جدا على الجسد والإرادة، حيث يمرّ الشاب بامتحانات غاية في العسر: يقطع مسافات طويلة من السباحة في مياه مضطربة، يتسلق جبالا شاهقة، يقطع أودية وعرة، يسلك ممرات تتخلّلها أوحال شائكة، يُترَك عرضة لخطر الحيوانات المفترسة… يمرّ الشاب الذي بلغ للتوّ سن الرشد بكل تلك المراحل ولا يصل إلا وقد أعتصرت منه الاختبارات كل أوشاب الميوعة، فإذا وعيه صَلْدٌ.

عند نقطة الوصول يجدُ أفرادَ القبيلة متحلقين ينتظرونه يتوسّطهم شيخهم. يجثو الفتى على ركبتيه قبالة كبير القوم. يمسك هذا الأخير آلة حادّة ويخط بها أوشاما مؤلمة على الجسد الغض للفتى. وكذلك تفعل عجوز طاعنة في السن مع الفتيات. أثناء هذا الطقس الأخير يردّد الشيخ بصوت مرتفع حِكَمًا وعِبَرًا تدور حول قيم الوفاء للجماعة والإخلاص والإيثار والتضحية والصدق والحب…، إنها تلك القيم التي نتعلّمها على مقاعد الدراسة ونكتبها بالقلم على الكراس. هنا يكمن الدرس. فالفكرة تتخلّق بعد التجربة. والتمثل يتشكّل بعد المراس. والمجرّد يلتئم عصارة للاحساس الحقيقي بالأشياء.

هنا يكمن الفرق أيضا:
لقد أدركت المجتمعات التقليدية بحدسها السليم أن الجسد ذاكرة أحفظ للمعنى من الوعي. ففي الوقت الذي تتوارى فيه قيمنا وراء اكتظاظ المشاغل وتتعرض للتلف نسيانا وامّحاء تحت وطأة الدنيا، تستعصي قيم الجسد على الزوال. وقد قال نيتشه : “وحدها الأفكار التي تأتينا ونحن نمشي لها قيمة” Seules les idées qui nous viennent en marchant ont une valeur. لا يعني المشي هنا حركة أعضاء الجسد وإنما هو مغامرة حياتية يمثل الألم خيطها الناظم. كان القرآن الكريم قد قال قبل ذلك (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) راسما بذلك المسافة الشاسعة بين القول والفعل.

الأفكار التي نتمثلها بالوعي المجرّد أو نستقيها من كتب المدرسة تكون في الغالب خاوية وتسقط أمام امتحان الحياة. أما تلك التي يخطّها البأس والبأساء فإنها تكون حيّة ممتلئة. صحيح أن الألم لا يجعلنا سعداء، ولكنه يجعلنا أكثر عمقا. وإذا كانت الدعة تحملنا الى العالم الخارجي فتغترب بِنَا عن أنفسنا جريا وراء أشياء، فإن الشدة تعود بِنَا إلى ذواتنا لنتصالح معها.
قيمة ما قيل في جلسات الاستماع التي تنظمها هيئة الحقيقة والكرامة تكمن في صوت الجسد. إيقاع التجربة أقوى من البيان. لذلك تتلاشى اللغة أحيانا ويتبدّد المعنى أصلا ليحلّ الصمت. البكاء هو المعنى وقد أفلت من اللغة لأنه ضاق بالأسر. البكاء والتأثر الذي يبديه المستمعون هو نفسه المعنى وقد تحرّر من سجن الكلام.

الذين لم يجرّبوا، أفضل لهم أن يتمتعوا بالإنصات الصامت. اللغة تقوم على الإكراه والإلزام أكثر مما تقوم على الاختيار. عوامل الإكراه فيها أكثر وأكبر من مساحة الحرية. وهي عاجزة أمام كثافة التجربة. لذلك يلتمس المبدعون وسائل أخرى للتعبير كالرسم والموسيقى والنحت. ولذلك أيضا تكلّم المتصوفة بلغة انفجرت مفرداتها وتفكّكت حروفها لمّا حلّت فيها ذخائر المعنى.
رجائي أن لا نُفسد هذه اللوحة الفنية الدرامية، الثرية بصدق المشاعر وسطوة التاريخ، بالحساب السياسي. اللقاء مع وزير الداخلية الأسبق يفتقد الحس الفني والذوق السليم. إنه لقاء يصيب عذرية المشهد في جمال. لقاء يُفقد المناسبة التي تنحتها روايات الضحايا خصوبتها ويجعل منها كائنا عقيما. هذا اللقاء في هذا الوقت بالذات وقبل المحاسبة والاعتذار هو كالقضيب الذي اخترق أجساد شهدائنا الطاهرة. كان أحد الجلادين يأتيني ساعة متأخرة من الليل في حالة من السكر الكافر. يدنو بفمه من أذني حتى يكاد يلامسها ويشرع في سبّ الجلالة وسبّ والدتي ووالدي. عرَّى نفسه مرة وهمّ بالتبول عليّ (المعذرة عن قذاعة اللفظ) لو لا أن نهره أحد زملائه. لقاء وزير الداخلية الأسبق حرّك صدى ذلك الصوت الذي تجرّأ على الجلالة في أعماقي سخرية وتهكّما من سنوات ضاعت. والحال أن كثيرا من ضحايا الاستبداد لا يطلبون شيئا سوى الاعتراف بالذنب والاعتذار.

أن يدفن أحد ضحايا الاستبداد زمن حكم بن علي في خرسانة أحد أعمدة الجسور وأن تظل أمه تتحكم في الجنون يأكل من فؤادها ويتغذى من صحتها بدلا من أن يخرج، وأن تنجب إحدى السجينات من أحد الجلادين على إثر عملية اغتصاب وتظل إلى الآن تتعذب طيلة هذه العقود كل لحظة كلما شاهدت ذلك “الإبن”…، فتلك جرائم يهتز لها عرش الرحمن. شعور تلك الفتاة الجميلة التي صارت رغم أنفها إمرأة وما هي بإمرأة بل مسخ يقبع في عمقه شيء قليل من إنسانية ونصيب وافر من عجز، شعورها ذاك العصي على التسمية لا يمكن أن يفقهه إلا الله والراسخون في الفهم، أولئك الذين مَرُّوا بطقوس العبور.

وزير الداخلية الأسبق كان الرجل الأبرز في تصميم جهنم الأرض. أوقد عليها حتى اسودّت أكثر من القار. قال الطيب صالح يصف رجلا اسمر : إنه أَسْوَدُ مرّتين. وزير الداخلية الأسبق رب تلك الجهنم. أسود مرتين. ومن يلقاه قد يناله بسواده رغم طهارة النوايا.
اللقاء به خسارة وإهدار. اللقاء به اعتداء لا يقل فظاعة عن اغتصاب تلك الفتاة البريئة التي حولها الجلاد الوحش إلى كيان ينسحب عليه قول الله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ). الاستبداد يخلق ما لا تعلمون.

مبرّر هذا اللقاء الجهل هو الجهل بمسالك الموت. مسالك اغتصاب معنى الانسانية. العلم بذلك يأتي من دروب طقوس العبور. ومن لم يمر بتلك الطقوس لا يفهم. تمليك هذا الفهم مستحيل. اللوم على من التقى المجرم لا يجدي. لأن غياب الفهم يُعجز صاحبه عن الذوق ويعود بالتجريم على من ألقى اللوم فيُتهمَ في أدبه. عَطَسَ أحد الأمراء المستبدين مرة فشمّته أحد الحضور غرّ نيته، فعلّق عليه متزلّف قبيح بالقول: لقد أصبت السنة وأخطأت الأدب، كما لو أنهما متناقضان، الشيء الذي يعني أن كثيرا من السلطة فساد.

التونسيون صدموا من فظاعة ما سمعوا لأنهم لا يعلمون. بل إن أكثرهم رهافة في الحس لم يكن يتصور. الأديب السعودي عبد الرحمان منيف يقول إن السجن والاستبداد في البلاد العربية يَضَعُكَ على مشارف الجنون، لكنه جنون يتعقل عمق الأشياء. أفضل مزايا الاستبداد أنّه ينقّي الوعي من الأوشاب رغم أنه يوشك أن يدمّره تماما. من لم يمرّ بطقوس العبور لا يفهم. من يفهم يفكّر مليّا، يتروّى قبل المصافحة.
العزاء الوحيد والعذر الوحيد لهذا اللّقاء النشاز أنّ طرفيه لم يمرّا بطقوس العبور، رغم أنها مرت بكل منهما بشكل ما.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock