تدوينات تونسية

من ازدواجية اللغة إلى ازدواجية الهوية

أنيس عشي

اللغة هي ظاهرة صوتية لها وظائف عديدة، فهي وسيلة للتواصل والاتّصال وهي وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار والآراء. لكنّني أرفض تقييد وظيفة اللغة بالتعبير أو التواصل؛ فالتواصل هو إحدى وظائف اللغة إلا أنه ليس الوظيفة الرئيسية. ولكن الوظيفة الأساسية للّغة هي الفكر والمنطق. هل يوجد شعب أبدع خارج إطار لغته ؟

يقول تعالى “إنَّا أنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ” ويقول سبحانه وتعالى “بِلِسَاٍن عَرَبِيٍّ مُبِينٍ”.

اللغة هي أحد أركان الهوية وهي عنوانها ومستحيل أن تجد أمّة عبر التاريخ أبدعت خارج إطار لغتها لأنه وببساطة لا توجد أفكار خارج إطار اللغة باعتبار أن اللغة هي وعاء الحضارة.

التونسيون فقدوا بوصلتهم اللّغويّة. فبأيّ منطق وبأيّ فكر تقبل المصطلحات التونسية التالية : “اقعد واقف”، “طالع الفوق” ، “هابط لوطة” فهل يقبل العقل والمنطق أن يقعد الإنسان واقفا أو أن يصعد إلى أسفل أو أن يهبط الى أعلى.

يقول تعالى “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ” ولم يقل ازدواج ألسنتكم، والازدواج هنا يقصد به الخلط بين لغتين في جملة واحدة. أغلب التونسيون يتكلمون اليوم ما يسمى بلغة « Franco-arabe » وهو المعنى الحقيقي للازدواج اللغوي الّذي يصل بك في أغلب الأحيان إلى هزيمة نفسية ويحيلك دائما إلى أنّ الأجنبي أفضل منك. فاللّغة هنا تعني السّيادة والقرار ومن لا يملك القرار اللغوي لا يملك قرارا أصلا. لغتنا العربية تحتوي على اثنتا عَشْرَةَ مليون مفردة ونحن لا نستعمل منها سوى 20 بالمائة فقط. وبالقياس فإننا لا نعرف من الثقافة سوى 20 بالمائة ومن الاقتصاد إلا 20 بالمائة وقس على ذلك بقية المجالات والعلوم. أينما ولّيت وجهك في تونس اليوم لا تجد على واجهات المحلات وأسماء الشوارع سوى المفردات الفرنسية: مقهى باريس، شارع شارل ديغول يقطعه شارع فرنسا ويقابله شارع باريس ومرسيليا وتتوسطه سفارة المستعمر. ويحيط بهم أنهج روما ويوغسلافيا وهولندا واسبانيا وانقلترا وروسيا ذئاب المستعمر وضباعه. ثم يحتل شارع الحبيب بورقيبة تتمة السيناريو ويكتب على تاريخ بلاد بن خلدون والزيتونة أغلال التخلف والفقر والجهل والتبعية.

الدول الأجنبية تشترط على أي بائع يبيع السلع أن يكون اسم السلعة أو المنتج بلغة تلك الدولة. القانون الفرنسي يحاسب كل فرنسي يتكلم غير الفرنسية الفصحى في وسائل الاعلام الفرنسية. عندما تكون في المجر لا ترى على واجهات المحلات إلا المجرية وفي ألمانيا لا ترى إلا الألمانية…

اللغة العربية تعيش مرض الأنظمة التي هي رديفة الاستعمار وليست نتاج شعوبها ومرض الأذرع الثقافية للاستعمار ومجموعات الضغط التي تتشكل من لوبيات مالية ووسائل إعلام مأجورة تعتمد على غفلة الشعوب باعتبار أن الوجود البشري قائم على استغلال الفرص. فهل يعقل أن يكتب تقديم مهرجان قرطاج باللّغة الفرنسية؟ وهل يعقل أن تصبح الفرنسية وسيلة للتمايز الطبقي في تونس ؟ وهل يعقل أن تقدّم نشرات الأخبار باللغة الدّارجة العامّية ؟

السياسة اللغوية غائبة في تونس والشعب التونسي لا يطالب بذلك أصلا. في جميع دساتير الدنيا يخصّص الفصل الأول للتّأكيد على مسألة اللغة. الفصل الأول في دستورنا ينص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة. للأسف دستورنا متقدم جدا على واقعنا ووعي شعبنا.

لا يجب على السلطة أن تنفرد وحدها في صياغة البرامج التعليمية في تونس لأن للدولة أجهزتها المادية والإيديولوجية… وأجهزة الدولة الأيديولوجية هي التربية والتعليم. فأين نحن في سلم العلوم ؟ وإلى أي مستوى انحدر مستوى التعليم ؟ على المجتمع المدني الدفع بالإدارة السياسية إلى تغيير المناهج وتقوية اللغة العربية التي كانت لغة العلم في السربون وغيرها من مدن العالم في العصر الذهبي للأمة. ووجب الكف عن إعطاء الرداءة وجعلها وجهة نظر في نصوص وبرامج اللغة العربية في أغلب المستويات فاللغة العربية فيها من الجمال ما لم تحظى أي لغة أخرى.

أختم بمقولة المفكر الليبي محمد محجوب. “دون لغتك يعسر عليك أن تعرف نفسك من تكون”.

حفظ الله لنا أوطاننا وحفظ لنا مبادئنا وهويتنا وعلى رأسها اللغة العربية.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock