كيف أضاع السبسي فرصته التاريخية
أبو يعرب المرزوقي
معادلة تونس السياسية
كيف أضاع السبسي فرصته التاريخية
عادت النخبة التونسية -وكان لا بد من منع الأقليمي والدولي من الاستحواذ على اهتمامي على حساب المحلي- إلى شعار أتوجس منه كثيرا: شعار إنقاذ تونس.
ذلك أن هذا الشعار كلمة حق لا يراد بها إلا الباطل. وذلك للعلل التي سأحاول حصرها لأبين أن تونس فعلا بحاجة إلى الانقاذ لكن ليس كما يضمرون.
فما يضمرونه ليس إنقاذا إلا بـالأقوال لكنه اغراق بـالأفعال. ويتبين ذلك من طبيعة تشخيصهم للداء الذي يريدون إنقاذ تونس منه وعلاجهم المقترح الذي سأصفه باستعارة من أدب المهاجرين في الغرب.
وسواء كان هذا الأدب باللسان العربي أو بلسان غربي وهو في الغالب فرنسي وإنجليزي ترى الكثير من مبدعيه يفسدون الابداع بشعارات “تؤهلهم” للحصول على رضا لجان الجوائز الغربية.
وأفضل السبل إلى ذلك هي الهجاء النسقي لكل ما هو عربي أو مسلم ما يجعل الأدب يتحول إلى تاريخ هجائي لقيم حضارة يعتبرها المخاطب به عدوا حضاريا ومن ثم فهو من أدوات صراع الحضارات.
وانطلاقا من هذه الظاهرة يمكن بشيء من التجوز تأويل شعار السياسييين العرب اليوم مضمونا ومقصدا بشعار نطقت به سليماني التي حصلت على جائزة جونكور الفرنسية Intégristes, je vous hais.
وضمير هذا الشعار منطلقه: كان على صاحبته أن تعترف بأن حقدها حاقد هو بدوره وهو ما لا يليق بأي مبدع إذا كان بحق مبدعا. ثم إن هذا الشعار يضمر ما صرح به أحد الدراويش الذي يتصور كل الإسلاميين دواعش بدرجات مختلفة.
فليس دافع من يقول مثل هذا الكلام بقابل للرد إلى دافع إنساني أو خلقي ولا حتى إلى دافع مسيحي منافق إنه حقد أصولي: Haine intégriste
لست أشكك في قيمة عملها لأني لم أقرأه بل لا اشك في أنه ليس رديئا لان المؤسسة التي وهبته تحترم نفسها. لذلك فليست سليماني هي المقصودة الظاهرة التي لا تبعد عن رشدي صاحب الآيات الشيطانية.
فالجزاء الغربي لكل من يعادي الإسلامي -وهو المقصود بالانتجريست- هو المكافأة التي ينتظرها أصحاب الشعار: انقاذ تونس. فلنسألهم مم يريدون أنقاذها؟
ليس نتائج العقود الستة الماضية لأنهم لا يريدون الإصلاح. وهم لا يستحون فيخفون قصدهم: نتائج حكم الترويكا أي 3 سنوات من ستة بعد ثورة على أربع وخمسين سنة من الاستبداد والفساد.
وإذن فالشعار بين القصد: انتظار مكافأة تدل على أن عملهم سيستأنف ما كان حكام تونس يرضون به حماتهم ليحققوا ما فشلوا فيه لما كانوا يحكموننا مباشرة.
فالرهان هو استئناف ما يسمونه معركة النمط المجتمعي أو صراع الحضارات الداخلي حتى بعد أن خفت خارجيا ولم يعد يقول به إلا اليمين الغربي المتطرف.
وهذا من معجزات التقدمية العربية -العلماني والليبرالي واليساري والقومي العربي- عقائدهم هي عقائد الرجعية الغربية ومن ثم فهم يخوضون دائما المعارك التي حسمت بشعارات كلها من أسماء الأضداد.
ومعنى ذلك أنهم متخلفون فعلا ويظنون أنهم يمثلون التقدم والتنوير. تنوير يحالف فاشية افسد الأنظمة التي تحكم بالنار والحديد والتعبية لحام جديد.
سمعت مؤخرا مشعوذا يعتبر نفسه فيلسوفا وابنتروبولوجيا في الإسلاميات بالشهادة المتبادلة بين شلل كاريكاتور الحداثة في ضفتي المتوسط يحمل الترويكا اكتضاض الإدارة وإفلاس تونس ويعتبر كل الإسلاميين دواعش بدرجات مختلفة.
لا أنوي مناقشة الدراويش لو لم يكن هذا الغرض من بين حجج أصحاب الشعار: فلنفرض أن الترويكا انتدبت ما زعموها انتدبت فما تفسيرهم لإفلاس الشركات الوطنية منذ عقود؟
فشركة تونس للطيران على سبيل المثال يعمل بها ضعف حاجتها ومثلها تقريبا كل شركات الخدمات التي أفلست. ومثلها الضمان الاجتماعي والإدارة المكتضة قبل حكم الترويكا طيلة خمس وخمسين سنة.
وقد ضربت هذا المثال لأنه من الحجج التي تتكرر لاخفاء ما يريدون انقاذه بالفعل والذي يشمله المفهوم الذي قسته على جائزة رشدي وسليماني الأدبية.
ولماذا أذهب لبعيد: فجائزة نوبل للسلام لم تعط لتونس لأنها توصلت إلى حل التوافق الذي هو أكبر أكاذيب اللحظة بل لأنها أوقفت التوجه الثوري كما تبين مما تلاه.
ما الذي يريدون إنقاذه عاجلا أولا ثم آجلا ثانيا؟ كل الحركة التي بدأت بما سمي مبادرة الرئيس ومزعم حكومة الوحدة الوطنية هدفها عاجل ومباشر.
وهو ما يفسر الإسراع بها قبل نهاية فصل العطل ما أنتج عنها تعطيل عمل الحكم لمدة أربعة أشهر في بلد يعاني من أزمات لا تحصى ولا تعد: انقاذ عهد.
فماذا أعني بإنقاذ عهد؟ لما قلت إن عهد السبسي بدأ بما انتهى به عهد بورقيبة بدا للكثير أني أمزح. والمبادرة تثبت بعد سنة ونيف أن السبسي فهم.
ماذا فهم؟ فهم أن حزبه في حال حزب بورقيبة في نهاية عهده وأن مشكل خلافته وخلافة الحزب هو ما ينبغي إنقاذه. فيكون باحثا عن 7 نوفمبر جديدة.
والعائق يتصورونه عدوا داخليا ويعينونه في الإسلاميين بوصفهم رقما يصعب حكم تونس ديموقراطيا من دونه: كيف يلغونهم وطرق العهدين السابقين تمنعهما الثورة (العنف والتهجير)؟
وطبيعي أن يستفيد من تجربة العهدين المتقدمين عليه: فكرة الوحدة الوطنية (بورقيبية) وفكرة الانقاذ (ابنعلوية). لكننا نعلم ما آلت إليه نهاية الأولى والثانية.
ومعنى ذلك أن التشخيص خاطيء بإطلاق. الدليل أن أغلب جماعة اكتوبر عارضوا نتائج الانتخابات الأولى وانضموا لجبهة الانقاد ثم نراهم اليوم يعودون ثانيتها زرافات ووحدانا.
الهدف العاجل هو إذن: الاعداد لإلغاء دور الإسلاميين انتخابيا ولو بالتزييف واختيار خليفة للسبسي في أقرب وقت ليكون محرك جبهة الانقاذ الثانية.
والغريب أن من انضم إلى الترويكا من جماعة اكتوبر هم بدورهم يسعون لنفس الغرض ولا أستبعد أن يجمعهم بالسلب الهدف الواحد: اقصاء الإسلاميين.
كما لا أستبعد أن يلجأوا إلى نفس السيناريو الذي طبقوه بهدف وراثة ابن علي والسيناريو الذي أفشله الشباب وسيكون هدفه هذه المرة ليس الإطاحة بالحزب الحاكم الذي أثبتت التجربة الأخيرة أنه عاجز عن الحكم بل بالحزب الذي له هذه القدرة: حزب الإسلاميين.
لكن دون ذلك عائقين كبيرين: لا يمكنه أن يعتمدوا على الاتحاد لأن الكلفة التي يطالبونه بها لا يمكنه دفعها حتى لا يفقد قواعده والثاني الوقت.
لو كان السبسي في سن تسمح له بالعمل المديد لأمكن له أن يخفف من الكلفة على الاتحاد حتى يضمن على الأقل حياده لكن الوقت لا يمده بهذا الحل.
فهو يعلم أن الدولة لم يعد لها القدرة على الصمود -لمدة كافية تمكنه من تحقيق الخلافتين للحزب وللرئاسة- من دون علاج أليم للحد الأدنى من وظائف الرعاية والحماية.
ثم إن اليسار -رغم تفاهة وزنه الانتخابي- لا يزال محركا للمسرح الاجتماعي بسبب تآكل القدرة الشرائية للعملة وغياب الدور الاجتماعي للإسلاميين لما لم أفهمه من العلل إلى حد الآن.
هذه هي المعادلة التي يريد السبسي حلها في أسرع وقت: كيف ينقذ خليفة حزبه الذي اندثر وكيف يختار خليفة الرئيس. وأعترف أن لهمه هذا وجها إيجابيا لو أحسن التشخيص والعلاج لشروط التدارك.
أضاع البوصلة: فلو كان صادقا حقا في تحقيق شروط الصلح بين فرعي الحزب الدستوري قديمه الذي ينبغي أن يتحدث وحديثه الذي ينبغي أن يتأصل لكان بحق زعيما وطنيا.
فهما العمود الفقري لقوى تونس السياسية وبهما يمكن بناء شروط الحياة الديموقراطية التي تعني التداول بين حزبين يتجاوزان الخلافات الجوهرية ويتنافسان في تحسين شروط الحياة السياسية والاجتماعية والخلقية.
لم يضيع البوصلة فحسب بل أضاع فرصة كان يمكن أن تجعله رمزا موحدا وليس رمزا مفرقا بهذه الصورة التي لم تعد مناسبة للعصر:
الصراع الحضاري انتهى
لم يعد يقول به في الغرب إلا جماعة “بيجيدا” وجماعة “لوبان” وجماعة “الكلو كلاكس كلان” ونظراؤهم من قوميـي العرب ويسارييهم وليبرالييهم. عليه أن يعي ذلك.
تونس وكل بلاد العرب لا يمكن حكمها ديموقراطيا من دون رضا شعبها وشعبها لن يتخلى عن خياراته الروحية بفضل صبوه لخياراته الحديثة حرية وكرامة.
لا احد دون النخب التي وصفت يعتبر الإسلاميين ما زالوا من جنس كاريكاتور الأصالة يقابلون بين قيم حضارتهم الروحية وقيم الحرية والكرامة الحديثة.
فشباب سوريا المقاوم منذ ست سنوات ضد الغزو الإيراني والروسي المساند للنظام الطائفي الفاشي والفاسد ومليشياته هو الدليل القاطع على أن الإسلاميين ليسوا كما يصورهم دعي الانثروبولوجيا دواعش بدرجات مختلفة بل هم قوة تحرير وتنوير ثورية.
وثورة المستقبل منافية لكل ما كان هيجل يعيبه على قيم الإسلام والتنوير: اعتبار البشر اخوة واعتبار المساواة والعدل بينهم شرط السلم الوطنية والدولية.
فهيجل يعيب على الإسلام كما يعيب على الثورة الفرنسية أنهما بهذه القيم المجردة -الأخوة المساواة والحرية- ليسا إلا يتوبيا تنافى استقرار الدول والحريات.
لكن البشرية اليوم وشبابها خاصة لم يعد يؤمن لا بالطبقية ولا بالعنصرية -شرطي التعضي بمصطلح هيجل- بل يؤمن بالاخوة والمساواة والحرية للجميع.
والدليل الذي يتجاوز مسرحيات الانتخابات وبروباغدا الإعلام المأجور هو الشباب في الفنون الشعبية وفي الملاعب الرياضية فأنت لا ترى بينهم تمييزا عنصريا ولا طبقيا بل تناغم.
لكن إحياء العداوة بين الحضارات وبين الطوائف هو من حيل المستبدين والفاسدين من الحكام أو من الطامعين في أرض العرب. ولأذكر منهما مثالين.
المثال الأول من غزاة أرض العرب: كثر الكلام اليوم في تونس من قبل مرتزقة إيران على مصدر الإرهاب لكأن المليشيات التي تهاجم أرض العرب سنة وليسوا شيعة أو عملاءهم السنة.
اضطررت مؤخرا لمتابعة البلاتوهات رغم تفاهتها : فسمعت البارحة وفد الصحافيين الذي زار العراق يمدح الحشد ويمجد أفعاله ويعتبر ما يقال عنه دعاية زائفة.
وكنا نصدق كلامهم لم لو يصدر عكسه عن مؤسسات حقوقية دولية. فمن اليسير عليهم تكذيب ما تخبر به الجزيرة بدعوى انحيازها ولكن المنظمات الحقوقية الدولية ليست صديقة للسنة حتى يشككوا في عدالة شهادتها.
وبلغت هذه الدعاية إلى حد صار فيه بعض الوزراء يتهمون صراحة ولهم صفة رسمية تمثل الدولة مذهبا سنيا بأنه هو مصدر الإرهاب ترديدا لدعاية إيرانية مفضوحا.
والمثال الثاني من الحكام العملاء ونخبهم وهو خدعة التخويف من النزعة العثمانية. فهذه الخدعة تستعملها إيران لأخفاء العدو الحقيقي للعرب: من يعلن أنه احتل 4 عواصم عربية.
لذلك فهذا الكلام هو من أكبر الأدلة على أن الصادق من القوميين العرب هم أغبى قوميين عرفهم الاقليم وأن الكاذب منهم هم أخبث طائفيين عرفهم الاقليم.
لكن ذلك كله لم يعد ينطلي على أحد من شباب الثورة في كل بلاد العرب من الماء إلى الماء. ولاختم :
السبسي قد أضاع فرصته وفقد بوصلته مثل نموذجه.
ما الإيجابي في همي السبسي: فلا يحكم أي بلد من دون حزبين قويين على الأقل مع رديفين أو ثلاثة ومن دون ووضوح رؤية لراس الدولة. لكنه يعمل العكس.
فلو لم يكن مخادعا للنهضة لكان في ذلك فرصة لخلق منافسة شريفة بين عودة الدساترة والإسلاميين لتقاسم الحمل واخراج تونس من كبوتها بنت 60 سنة.
إيهامه الشعب بأن تونس تعاني من حكم الترويكا -3 سنوات- كذبه حكمه سنة قبلها وسنتين بعدها لكنه ما يزال يخادع بالإيهام يجنة ما تقدم على الثورة.
التشخيص الأمين والصحيح هو أساس كل علاج حقيقي شاف: فليست الترويكا هي التي أنتجت الجهات المحرومة وفشل التعليم والإدارة والتنمية والبطالة.
وهذه المعضلات لا تحل بميزانية انقاذية والذهاب بالبلاد إلى كومسيون مالي ثان لبقاء يمكن من تنظيم انتخابات تلغي بالعكاكيز دور الرجل الثانية.
تونس وكل بلد عربي لا يمكن أن يحكم ديموقراطيا من دون الاعتراف المتبادل بين التأصيل الحديث والحداثة الأصيلة فهو ما يريده الشعب الذي ثار شبابه.
فبهذه الاستراتيجية تكون تونس مقبلة على فقدان رجليها الاثنتين: الآن النداء مفكك (الرجل الأولى) ويسعون لتفكيك النهضة (الرجل الثانية). ومنطق الصراع النقابي لا يحمي الأوطان فلا يعول عليه.
لا يمكن أن يكون المرء رجل دولة ويهمل هذه الحقيقة: أن تسعى لبناء حزب قوي وأن تفكر في رئاسة الدولة أمر مشروع لكن ليس بالعكاكيز بل برجل أخرى وخليفة رئيس محايد يجمع الصفين.
كل دول العالم تقف على رجلين. المتخلفون وحدهم يريدون رجلا مخادعة محاطة بعكاكيز من العملاء لا يمثلون ما يمكن بعد تحقيق شروط الاستقرار الديموقراطي التداول السلمي على الحكم.
تلك هي الفرصة التي يبدو أن السبسي بصدد إضاعتها بدليل اختياره لفريق من المستشارين لست أدري هل لهم “قلب” لتونس على أعدائها أم قلبهم لـ”العكري” وثقافتها على تونس وثقافتها؟