يؤججون نار الإرهاب وهم لا يعلمون…
بلغيث عون
كم هائل من المقالات والتعليقات المتعلقة بافتتاح مهرجان قرطاج السينمائي تدور حول قصة العراء والرقص… لم أتابع شيئا مما حصل، لكن الواضح أن الأمر متعلق بمشهد على غاية من الرداءة. ليست الرداءة فقط في المشاهد الفاضحة عينها والذوق المنحط، فذلك موضوع اختلاف؛ الرداءة أساسا في الدرجة العالية منها في وضع “توافقي” يستدعي الوقوف عند المشترك، وفي المال المهدور في وضع مديونية قاس وفقر مستشر وبطالة متفاقمة، وفي الوضع التعليمي المتردي الذي يتقدم كل هذا على حسابه ورغم أنفه…
التعليل كاتم الصوت الذي يرفعونه في وجه المتعلل بالذوق السليم والقيم الأخلاقية والمشترك والبطالة وتردي وضع العلم في البلاد، هو شعار هذا المهرجان نفسه و”عصيدة الإرهاب”. قبل مدة كان الوزير العجيب للتربية يتحدث عن الرقص والموسيقى ورأينا التلاميذ شرعوا بعد في الرقص في معهد الفحص. السؤال: ما معنى أن نقاوم الإرهاب بهكذا خطط؟
نذكر أن الإرهاب قد يقاوم أمنيا بالحفاظ على جميع شروطه والتعاطي معه من الخارج، وقد يقاوم بالقضاء على شروطه من فقر وجهل واحتقان نفسي، وقد يقاوم بالتطبيع مع شروطه (تلهية الناس عن آلامهم، شل قدراتهم على الفعل..). الحل الأمني مهم لكنه جزئي ومؤقت؛ الحل الجذري بمعالجة الشروط هو الأفضل على الإطلاق؛ الحل الوهمي بالهروب من الآلام والتطبيع معها هو الأسوأ على الإطلاق.
للأسف فإن الذين يمسكون السلطة منتهى عقولهم عند الحل الأخير. رؤيتهم (التي منها ما يعونه ومنها ما لا يعونه) تقول ما يلي: الإرهاب سببه روح القوة التي تسكن الشاب (والتي هي في نهايتها عنف) بكل محمولاتها: يقظة النفس (كره لشيء ما) والعقل (إنتباه لمشكل ما) والجسم (استعداد لفعل ما). غير أن التشخيص يمضي سريعا إلى الفكرة العجيبة التالية: اليقظ في العالم المعاصر والمعارض لوضعه والمتحفز للفعل (بعد أن التهمت المدنية المعاصرة الجميع) هو “الإرهابي من النوع الديني” (لا أرى هذا صحيحا فكثيرون اليوم منهم المهمشون وبعض اليسار “الحقيقي” خارج الإحتواء)، والعلة واضحة، كونه أكثر الذين مكث اليوم معرضين عن معايير الحياة المعاصرة لكونه معني بعالم غير الدنيوي، الآخرة، ومتحفز لفعل ما ضد الوضع القائم والنظام الحاكم.
بالطبع العبارة الشهيرة لماركس “الدين أفيون الشعوب” (كتاب: مساهمة في نقد فلسفة الحق لهيغل) تسقط اليوم بشكل مدو: مضمون العبارة يقول أن الأفيون مخدر نسكت به الآلام الحقيقية/الدين يسكت آلام المؤمنين به، بتعليق همة الناس بالجنة وإبعادهم عن معالجة آلامهم الدنيوية… اليوم (وهنا الطرافة التي تعنينا) الآية معكوسة تماما: الغوص في الحياة هو الأسلوب الجديد -الذي لا يعرفه ماركس- لإبعاد الشعوب عن آلامها (فالرقص أفيون الشعوب والعراء…)؛ بالمقابل فإن الإعراض عن الحياة هو الطريق الجديد للثورة عليها لكونه الوحيد الذي يحفظ قوة الذات… بإمكان المعنيين بالفكر أن ينجزوا بحوثا في هذا الشأن وأن ينظروا في شأن اليسار الذي يشارك اليوم في جريمة تخدير الشعوب.
أسوأ من التخدير ومن الأفيون النتيجة العكسية: لا يبدو لي أن الذين يخططون من المثقفين يجهدون أنفسهم في التفكير العميق وإلا لعرفوا أن أحد الأسباب الرئيسة للإرهاب لا انتشار روح القوة المفضية إلى العنف، بل على العكس انعدامها وانعدام مناخ القوة والرجولة الذي يفرغ فيه الشاب “قوته الغضبية” (العبارة قديمة لأفلاطون). كل ذلك ظاهر اليوم في ظواهر التخنث وغلبة الطابع الأنثوي على الحياة والنقد الذي نوجهه في دروسنا لمفهوم الرجولة والشرف… الإرهاب في واحد من معانيه الخطيرة استرجاع -سيء ولا ريب- للقوة الموؤودة في العالم المعاصر وثأر حتى من الإخصاء الذي يعيشه الشاب المعاصر.
لا أرى في الرقص والعراء والتخنث ونشر ثقافة اللارجولة وقتل روح القوة لدى الشباب (التي يجب أن توظف لا أن تقتل) إلا بذورا خبيثة لمزيد من الإرهاب. سيكون الرد واضحا: البعض سينخرط في الثقافة الأفيونية والبعض الآخر سيزداد عنفا. كل الخوف أن يكون هؤلاء بغبائهم يزرعون الشروط الدائمة للإرهاب لينقلوه إلى ظاهرة في تونس وهو بعد دون هذا المستوى.
إنهم يؤججون نار الإرهاب من حيث لا يعلمون.