“أُمُّ الطّعَام”… ما عرف قدْرَها إلا “الباي” !
عبد القادر عبار
من البِرّ أن يذكر المرءُ أمّه بخير، ويعدّد خصالها، ويشكر من واساها وساندها، ويعاتب من قصّر في حقّها، ولم يعترف بجميلها.
أمّي، هذه التي أعنيها، ليست تلك التي حملتني جنينا في بطنها، وألقمتني ثديها رضيعًا، فتلك أسأل الله أن يرحمها، وإنما أعني تلك التي حبَوْتُ فوق ترابها، وتنفّست هواء واحتها، واختنقتُ بدخان منطقتها الصناعية الكيمائية، وتبرّدتُ بماء بحرها،قبل أن تلوّثه نفايات الفوسفوجيبس، وأكلت من خضرها، وسَمَكها.
“غنّوش” هي أُمُّ الطعام !، وسَلّةُ الجنوب بحق، وورشة الإنتاجية، إلا أنها للأسف، قد ذاقت من الغُبْن الرّسمي والجهوي منذ الاستقلال إلى ما بعد الثورة، ما لم تذقه مدينةٌ أخرى في مثل حجمها، وموقعها، وإنتاجيّتها : صناعةً، وفلاحةً، برّيّة، وبحريّة، وإطارات علمية عالية، وكفاءات جامعية سامية..
والغريب أنه، ما عرف قدرها، وفضل أهلها، إلا “الباي”، كان ذلك منذ أكثر من 200 عام عندما أسقط عن أهلها “الضريبة” تقديرًا لهم، واعترافا بجميل أخلاقهم، ومكافأة لهم على إطعامهم الطعام لابن السبيل، فـ”غنّوش” مازالت تحتفظ بوثيقتيْن تاريخيتين، كلاهما شهادة من “الباي” تعفي أهلها من أداء ضريبة المَجْبَى، وذلك تقديرا لعملهم الاجتماعي الخيري، فقد جاء في الوثيقة الأولى “إننا جرّدنا أمرنا هذا لفقراء أهل غنوش بقابس في ترك المائتين وثلاثين ريالا وربع، مَجْباهُمْ، رفْقًا بهم، بكونهم يطعمون الطعام.. فلا سبيل لمن يطالبهم بشيء من العدد المذكور في هذا العام وفي كل عام / محمود باشا باي / أواسط جمادى الأولى سنة 1230 هجري”.
وهي لفتة رسمية من أعلى سلطة، في ذلك الزمن، لها وزنها المعنوي، وقيمتها التاريخية، بينما طيلة الخمسين سنة الماضية من الاستقلال، وحتى بعد الثورة، ظلت هذه المدينة (عروس الجنوب الشرقي). تُعطي بلا مقابل، وحتى عندما ارتقت إلى درجة “معتمدية” لم تُمنَح خاصيات المعتمديات الأخرى، فليس بها فروع لا للسوناد ولا للستاق ولا للكنام، ولا التجهيز، ولا لغيرها من الإدارات التي هي من حقها، لتقريب الخدمات لِمُواطنين يملئون أسواق الوطن خضرَا وغلالاَ وسمكاَ، وإنتاجَا لكل نافع،.. وهي التي تعدّ 30 ألف ساكن، في منطقة بلدية واحدة، ينطق لسانُ حال كل واحدٍ منهم بنفس الكلمة “إلى متى غنّوش مَحْقورة ؟؟”.. فاِلي متى تظل كذلك ؟؟ هل ننتظر عهد باي جديد، حتى تُرْحَم “أمُّ الطعام”، وتُكافأ ؟؟؟