مقالات

فشل الدولة بالإيفاء بوعودها التحديثية

.
اليوم 27 سبتمبر 2016 موعد محادثتي لقبول تسجيلي بماجستير فلسفة في المعهد العالي للعلوم الانسانية بتونس، دخل معي في ركن الانتظار أربعة عشر من المتحصلي على شهادة الاجازة من جميع الإختصاصات ينتظرون دورهم في الدخول لإجراء محادثة القبول في التسجيل بماجستير “فلسفة التنوير والحداثة”.
ما لفت انتباهي رغم أن الكل في حالة تركيز تام للأسئلة التي ستطرح في المحادثة، هو كون من ضمن الأربعة عشر المتحصلين على شهادات علمية هناك تسعة طلبة خريجي المعهد العالي لأصول الدين من بينهم طالب كفيف البصر دخل إلى قاعة المحادثة قبلي، بعد ان كلف نفسه عناء السفر للحضور اليوم.
أتذكر أن محمد الرزقي رئيس قسم الشريعة بالمعهد الأعلى لأصول الدين قدم طلب للوزارة في إضافة قسم للفلسفة وعلم المنطق في كلية الشريعة سنة 2012 فقبل بالرفض من قبل رئيس الديوان بوزارة التعليم العالي المكلف بملف الماجستير.
.
طبعا السؤال الذي يطرح نفسه، ما الذي يجعل طالب في كلية الشريعة يتوجه لدراسة العلوم الإنسانية وخاصة مادة “الفلسفة” بعد تحصله على إجازة في العلوم الشرعية؟ مالذي يجعل هذا الطالب ينتقل إلى كلية أخرى قد لا تتناسب مع طبيعة العلوم الشرعية التقليدية المنغلقة على ذاتها التي لا تزال تعتبر الجامعات الأخرى بمثابة بؤر للتلوث الفكري والثقافي؟ وفي ذات الوقت مع رفض النظام التعليمي (والذي تمثله وزارة التعليم العالي) توفير الوسائل المتاحة للنهوض بمجال علمي لطالما ادعت الدولة من خلال ما تنتجه من نخب رسمية مثقفة أن هذا المجال العلمي (أي العلوم الشرعية) يشكل عقبة حيال عملية التحديث وتطور المجتمعات ككل.
.
الإشكال حسب معرفتي يكمن في كون السقف المعرفي المحدود الذي يتحرك فيه عقل الطالب الذي يدرس في كليات العلوم الشرعية لا يسمح له ولا يترك له المجال لطرح أسئلة نوعية معيارية من الناحية الابستيمولوجية بحكم ان الابستيمولوجية تبحث في نقد المعرفة من ناحية الأسس والمبادئ والمناهج يعني جوهريا هي تبحث عن جواب لسؤال “كيف ينبغي أن يكون عليه العلم” (لذلك اتصفت الابستيمولوجية بالمعرفة المعيارية) انطلاقا من حركة نقدية متصاعدة وحيوية لا تؤمن بالمسلمات، فبالتالي يلتجئ بعض طلبة العلوم الشرعية إلى الانتقال إلى مجال معرفي آخر قادر ان يستوعب تلك الأسئلة المتسقة مع زمنها المعرفي بالإجابة عنها بعد اجتراح وسائل حديثة لم يمكنه الاطار المعرفي في كليات العلوم الشرعية أن يكتسبها.
.
الدولة هي التي من المفروض أنها تسعى لتحديث الهياكل الاجتماعية التقليدية بحكم ان النسق الثقافي لهذه الهياكل غير قادر أن يستوعب المؤسسات السياسية والإجتماعية الحديثة، لكن الدولة اليوم غير قادرة على الإيفاء بوعودها بإحداث مشاريع لذات الغايات التي تسعى اليها الدولة، هي مشاريع لا تكلفها الكثير والتي من شأن هذه المشاريع أن تعالج جذريا من الناحية الفكرية كل من ظاهرة الإرهاب والتطرف (المعالجة الجذرية من الناحية المادية تكون بتحقيق العدالة الإجتماعية).
.
فقط حينما تفشل الدولة بالإيفاء بوعودها التحديثية الممكنة وفق الإمكانيات المتاحة يلتجئ الناس إلى المقاربة المعيارية للدين مقابل المقاربة المعيارية للدولة وتكتفي الدولة بإنتاج كيانات ثقافوية طفيلية المسمات بالنخبة الثقافية كمجرد جوقة “الطابور الخامس” للنظام المدعي للحداثة، هذه النخب دورها يختزل في الدفاع على ذات النظام الغير قادر على توفير الشروط الموضوعية لما تنادي به تلك النخب، نخب تحمل بوصلة مغلوطة مغشوشة توجه فيها اللوم وتحمل فيها دائما المسؤولية لمن يتمثلون تلك الهياكل الاجتماعية التقليدية رغم ان الدولة لا تعي اهتمام بالنهوض بها ولا تضعها في سلم اهتماماتها فقط فقط تكتفي بالحكم عليها بأن تظل حبيسة الأطر الضيقة التقليدية التي تتحرك فيها والا قبلت بالردع، فبالتالي تصبح النخب فاقدة للعمق المجتمعي، لذلك تجد كتاباتها غير مقروءة داخل مجتمعها بحكم أنها لا تمثلهم أصلا لعدم قدرة تلك النخب على تقمص الدور الريادي في القضايا المصيرية التي تهم الشأن العام والنظام الاجتماعي ككل.
.
فقط تكتفي تلك النخب ببسط نقدها الفوقي من خلال الاقتصار على وصف الظواهر الاجتماعية بعبارات لا علمية سطحية غير قادرة أن ترجع تلك الظواهر لأسبابها الموضوعية التي جعلتها تتحرك وتتفاعل في نسق معين هذا الاقتصار في حقيقة الأمر يعكس مدى فقدان تلك النخب للجرأة العلمية والصرامة المعرفية التي دائما ما تدعيها علنا، كل هذه المعطيات تجعل من الجامعة مجرد مصنع لخبراء التشريح السياسي المدولن بالمعنى الفوكوي (نسبة الى ميشال فوكو) وظيفتها تقتصر على الحراسة الأيديولوجية للسلطة السياسية-الحيوية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock