مقالات

بيت الحكمة وألاعيب مجتري قشور الحداثة في تونس

أبو يعرب المرزوقي

بدايات علاقتي بالمبشرين بقشور الحداثة
لم يكن ما كتبته في دعاوى عدنان إبراهيم بداية معركة مع دجالي لحظتنا العربية الإسلامية. ولـذلك لم تفهم إشارتي إلى محاوري حول دور شلته في الريادة فظن البعض أني أقصد عدنان إبراهيم.

أما من كنت أعنيه بكلامي فهو غيره إنه قائد المخرفين الذي يدعي أنه رائد النخب العربية التقدمية أعني من يتصورون أنفسهم مبشرين بـالحداثة خلطا بينها وبين قشورها.
والحوار المشار إليه في كلامي مسجل وهو منشور بالصوت والصورة من الفضائية التونسية التي نظمته أعني ت.ن.ن. فمن أراد سماعه فهو متوفر في اليوتيوب بنشرها.
ولم أستغرب كلامه لأني أذكر أنه كان مرة ضيف شرف مع مستشرق فرنسي في الجنادرية وكان غالب ليبراليي الخليج يعتبرونه وحيد زمانه لفرط دجله وغبائهم.
وهذا الرجل –عبد المجيد الشرفي النسخة التونسية الشوهاء من أركون- لي معه الكثير من المناسبات التي جعلتني أفهم معنى الدجل وحاجة الغرب لأمثاله ليس في ترذيل النخب الجامعية عامة فحسب بل وتشويه القرآن الكريم.
فهم يعلمون أن علمهم بالإسلام لا يساوي صفرا فضلا عن علمهم بالفكر الغربي الذي لا يقبل به حتى قراء الصحف الصفراء من العامة: شعارات بدائية. وهذه أمور لا تخفى عن المستشرقين. لكنهم يحتاجون إليهم.

عبد المجيد الشرفي
عبد المجيد الشرفي

سأقص عليكم للتاريخ ثلاث حوادث وبعض أمور تشبهها وبعدها أتكلم في ما يدعيه هو والبعض من طلبته الذين ما زالوا تحت سلطانه إما لحاجة أو لأنهم من مستواه المعرفي المتدني.
لكن الكثير من الأفاضل لما عرفوه قلوه قدر الإمكان وإن كان سلطانه الناتج عن علاقته المشبوهة بالنظام السابق وبمافية الجامعة جعلتهم يتجنبونه بالمداراة والحذر خوفا على حياتهم المهنية.

• أول حادثة حصلت لما كنت لا أعرفه لا كشخص ولا كأستاذ وعين عميدا في كلية العلوم الإنسانية التي انتدبت فيها حديثا. وهو الذي ذكرني بالحادثة مدعيا أني بذلك كنت أتقرب منه.
وفي الحقيقة كان مسعاي مجرد استجابة لنصيحة ناشر كتابي الأول حول مفهوم السببية عند الغزالي بالفرنسية ثم بالعربية. طلب مني ربما لعلة تجارية أن أطلب من العميد تقديم كتيب لي كان مادة درس في الابستمولوجيا اليونانية المبنية على اصول أقليدس.
فظننت -كما يحدث في الجامعات المحترمة- أن ذلك فيه تعزيز للأساتذة الجدد من زملائهم الأسن. ففعلت. طلبت منه ذلك فقال اكتب ما تريد مقدمة وسأمضي.
عجبت للأمر لكني فعلت نظرا لأني لم أكن ذا خبرة في الموضوع. ظننت ذلك عادة. وقد أمضى باسمه نصا لم يكتبه. وكان ذلك من علامات الأمانة العلمية لديه. لماذا التذكير؟ لعلاقته بأعجب منها.

عودة حليمة لعادتها القديمة

نجح أخيرا رئيسا لبيت الحكمة التي -ولا فخر- سعيت لجعلها مؤسسة أكاديمية تابعة لرئاسة الحكومة ورئيسها المنتخب برتبة وزير دولة وقد أعددت الأمر المتعلق بها بنفسي مع السيدة المستشارة القانونية لرئاسة الحكومة.
وذلك بعد أن أمدني مشكورا السيد وزير الثقافة تلميذي في مناهج علم الاجتماع وزميلي في الجامعة وصديقي بالنص الذي كان ينظم بيت الحكمة لما كانت تابعة لوزارته.
وللتاريخ كذلك فقد كان مترددا لما اقترحت عليه اسم هشام جعيط ربما احترازا مما قد يعتبر مناقضا للحكم باسم الإسلام. لكني وعدته بأن يفعل ولن يعارضه أحد وسأتكفل بمن يمكن أن يعارضه. وهو ما فعل لأنه كان يرى ما أراه: اختيار الأفضل.
فكان العجب العجاب لما نجح الشرقي والفرق بينه وبين جعيط كالفرق بين الثرى والثريا. ففي أول لقاء لقسم العلوم الإسلامية قال مخاطبا إياي بحضور الزملاء: كنت أتصورك لن تحضر بعد أن أصبحت رئيسا وقلت في ما قلت بعد لقائي بالرئيس مع مثقفي تونس. سألته: هل بيت الحكمة من تركة السيد الوالد ورثتها؟

وكان دافعه هو ما كتبته منددا بلقائه قائدا لثلة من الاستئصالين برئيس الدولة ليثنوه عن تشريك الإسلاميين في الحكم لكأن الانتخابات لم تعد كافية لتحديد شرعية من يحكم أو لكأن الرئيس يمكن أن يستبد بالأمر كما كان ابن علي: قلت إن زعيم هذا الوفد لا أعرف عنه إلا أنه لا يتكلم إلا في ما لا يعلم.
وكان ذلك دليلا على أنهم يتصورون أن ما كان ممكنا في عهد امتيازاتهم قبل الثورة سيعود ويصبح أمرهم مطاعا كما كان. وذلك هو علة ما كتبته فيهم بعد أن رأيت تطبيل الإعلام الأبله لموقفهم.

لم يكتف بذلك بل انسحب من القسم الخامس الذي أضفناه عند ترفيع منزلة بيت الحكمة “قسم العلوم الإسلامية” وسعى لإلغائه أو ضمه إلى قسم العلوم الإنسانية. وطلب ذلك من المجلس العلمي.
وهذا من فرط عدائه لإدخال العلوم الإسلامية للمؤسسة التي يريدها هو ورهطه دار ثقافة لعرض سخافاتهم وأحابيل بعض السفارات باسم التنشيط الثقافي (فرنسا وإيران خاصة): سخيفة من مدرسته اعتبرت ذكر الغزالي علامة دعشنة.

كتبت في مدونتها وعممت الصحافة كلمتها والتي جاء فيها أن ابا يعرب المرزوقي قد “دعشن” بيت الحكمة لأنه أدخل فيها الغزالي -حجة الإسلام- ولم العباقرة مثلها.
وفي الحقيقة ليس لي أدنى فضل في اللوحة التي توجد في ساحة البيت وهي من إنجازات استاذنا الفاضل الشيخ الدكتور عبد الوهاب بوحديبه أطال الله في عمره ومتعه بالصحة.
واصل حربه على البيت -لا علي لعلمه أن ما فشل فيه هو وكل شلته في عهد ابن علي يصعب أن ينجحوا فيه الآن- فتوجه لقرطاج لإيجاد مدخل لفرض شلته مدعيا أنه سيجعلها تابعة لقرطاج بدل القصبة.

الحادثة الأولى

ولأعد للأحداث الثلاثة التي جعلتي أفهم علة صلفه. وسأذكر الأحداث الثلاثة بتواليها التاريخي. أولها كان في قاعة الأستاذة في جلسة مع أحد شيوخنا الكبار.
والشيخ هو الأستاذ محجوب بن ميلاد رحمه الله. وهو شعلة في العربية والفرنسية في تاريخ الفلسفة والكلام. كنا شبابا نستمع إليه وهو يشرح لنا بعض الـمسائل الكلامية العويصة.
وكان عبد المجيد الشرفي جالسا قريبا منا دون أن يكون معنا. فهو يظن نفسه من الكبار لأن له في الظاهر للعب على حبل الأبهة الجامعية والمعارضة النقابية ومع حساب المصالح ككل ما استبدوا بسلطان الجامعة.
فقفز وكأنه مصعوق ليقول ليسخر مما يدور حوله حديثنا مع الشيخ. أتدرون ماذا قال الشيخ؟ لم يلتفت إليه ولم يكلمه. وواصل كلامه مع جملة اعتراضية جمدت المصعوق.
ثم التفت إلينا وقال قولته التي ما تزال ترن في أذني: يا لولاد (=أيها الشباب) خذوه على حد عقله. لم يضف كلمة وواصل حديثه. وكان من بيننا رئيس قسم العلوم الإسلامية الحالي في بيت الحكمة.

الحادثة الثانية

مرت مدة على هذه الحادثة الأولى. والتقينا ذات ليلة في مهرجان الربيع بالقيروان. كنا على مائدة العشاء وكانت الجلسة بحضور بعض الطلبة من الجنسين. ورد ذكر ابن رشد ولا أذكر من أشار إليه في الحديث. فاستبد الشرفي بالمجلس تفاقها.
قال: ابن رشد حمار. عجبت. سالته كيف ابن رشد حمار؟ قال أيعقل أن يترجم التراجيديا بالمديح والكوميديا بالهجاء؟ سألته هل قرأت محاولته؟ صعق واحتج : طبعا قرأته.
قلت له: إن كنت قرأته فقل لي كم شرح من بيت شعر عربي في محاولته؟ قال: وهل شرح شعرا عربيا حتى أذكر لك ذلك؟ قلت له: هذا دليل أنك لم تقرأ محاولته.
وكل هذا الكلام عليه شهود من بين الطلبة -وقد ذكرني بالحادثة أحدهم ذات مرة التقاني في معرض الكتاب- لذلك فلا أظنه ينكرها لأن الشهود أحياء.
ثم إن هذا الكلام هو من بعض تخاريف قسم العربية وهو موروث عن سخرية عبد الرحمن بدوي من الترجمة العربية القديمة كما وردت شاهدا في رسالة أحدهم حول المسرح العربي.
المهم قلت له: أولا ابن رشد لم يترجم الكتاب لأنه مترجم قبله بثلاثة قرون وهو لا يعرف اليونانية. وثانيا أكاد أجزم الآن أنك لم تقرأ شرح ابن رشد وإلا لما وصفته بالحمار.
فاعتبار التراجيديا أصلها المديحي والكوميديا أصلها الهجاء ليس مصدره المترجم العربي بل أرسطو نفسه هو قائل ذلك في بداية كتاب الشعر. ثم إن هذا من جنس تسمية الشيء بأصله وهو معتاد.
وابن رشد شرح مائة بيت وبيتا من أجمل أبيات الشعر العربي وخاصة للمتنبي ليقارن فنيات الشعر العربي بفنياته اليونانية. ثم إن ابن رشد أول من اكتشف حقيقة مهمة جدا.
فهو قد أدرك الفرق بين الشعرين العربي والشعر اليوناني وذلك بدليل قوله إن أشبه شيء بالشعر اليوناني هو القصص الديني وليس الشعر العربي فبين فهما دقيقا لخصائصه.
والملاحظ أن ثلاثة من فلاسفة العربية شرحوا كتاب الشعر الفارابي وابن سينا وابن رشد وثلاتهم كانوا شديدي الوعي بالفرق بين الشعر اليوناني والشعر العربي ويحاولون درس فنيات الشعرية المشتركة.
وأخيرا فإن ذلك هو ما يفهمنا قصد الوعد الذي قطعه ابن سينا على نفسه بتأليف كتاب في شعر لا يكون منتسبا إلى ثقافة معينة لا عربي ولا يوناني وسماه الشعر المطلق أي الإنساني بإطلاق.
وهو ما جعلني أغامر لتعريف القصد بهذا الشعر المطلق وأكتب ما أتخيل أنه يحقق وعد ابن سينا الذي لم ينجزه ربما لموته المبكر وسميته “في العلاقة بين الشعر المطلق والاعجاز القرآني”.
وعلي أن أقر للشرفي أنه لم يكن محظوظا إذ إني حينها صرت أعرفه وهو ظل على جهله بأني درست أرسطو نظرياته النظرية والعملية والشعرية عشر سنوات. فالمشبع بنفسه لا يتعلم ولا يعلم أن غيره يتعلم.

الحادثة الثالثة

بعد ذلك بأكثر من عقد التقينا بعد منتصف ليلة يسودها الضباب في رحلة من مطار القاهرة إلى الاسكندرية -كدنا نهلك فيها- لحضور ندوة بين القوميين والإسلاميين وكان معنا صلاح الدين الجورشي.
دون مقدمات قال ونحن في بداية الطريق: لقد قضينا على أسطورة ابن خلدون. قلت من “نا” في قضينا؟ قال أنا وطالبة أعدت أطروحة معي حول ابن خلدون وكتبت مقدمة لنشرها.
سألته بنبرة ساخرة يخفي الظلام عبارتها البدنية: هل وضعتم نظرية جديدة في العمران البشري والاجتماع الإنساني بعد أن بينتم أخطاءه فيهما؟ قال بل أكثر من ذلك. عجبت. هل لابن خلدون شيء آخر؟
قال: أثبتنا أنه سلفي ورجعي. عجبت. ما هذه الثورة التي انتظرناها لقرون حتى من الله علينا بكل هذا العلم؟ أظن الا احد قرا قبلكما المقدمة وخطبتها.
فعلى حد علمي بابن خلدون -وهو مجزى قياسا إلى علمكما به- كان الرجل يفاخر بانه سلفي بمعنى آخر لأنه عالم تاريخ لا يسقط شعارات الحاضر على الماضي.
ويوجد أمر آخر يشبه الأحداث الثلاثة دون أن يكون مثلها -وقضية بيت الحكمة تشبهها لكنها ليست حادثة مضت بل هي حدوث ما يزال جاريا- هي دعواه الخبرة باللغة والفكر الألمانيين لقضائه فصلا ضيفا في ألمانيا.
فمازحته وكان معي كتاب ألمانية كنت أترجمه: هل لك أن تفسر لنا العنوان؟ مهمه. ثم اعتذر بأنه لم يتفرغ لتعلم اللغة بل للعمل في ما استضيف لاجله.
وكنت أعلم أن ما استضيف لأجله غني عن العلم حتى بالعربية. ذلك أن عربيته -رغم كونه أستاذ عربية- أقل ما يقال فيها إنها أكثر من عادية وهذا يكفي.

ماذا يعني العلم بالإسلام عند الشرفي؟

كما أعلم -من خلال أهم كتاباته- أن ما يسميه علما يرد إلى شبه فكرتين هما من جنس ما يسمى بالفرنسية “لاباليساد” أي الأفكار العامية التي لا تحتاج للتفكير فضلا عن التفكر.

• فالفكرة العامية الأولى هي القول هي دعوى أن الإسلام متعدد : عربي هندي مالاوي إلخ… وقد صنف بعض طلبته العديد من الأعمال حول هذه الخرافة. والعلة هي أنه لا يميز بين ترجمات الإسلام الفلكلورية والدين الإسلامي.
افرض انه قال : البايولوجيا متعددة لظنه أن تشكلات قوانين الحياة في الأعضاء المختلفة يعني أن قوانين الحياة متعددة. التشكل الثقافي للإسلام هو المتعدد وليس الإسلام.

• والفكرة العامية الثانية هي القول إن للإسلام تاريخا متغيرا وهو يعارض التاريخ. وهي شبه فكرة لأن الإسلام نفسه يؤمن بضرورة التجديد كل قرن ويؤمن بأن الأديان تضفي على التاريخ شيئا يحد من سيلانه.
ولعله الإسلام أول دين يعتبر التاريخ جزءا لا يتجزأ من الرسالة. لذلك فهو فلسفة دين وفلسفة تاريخ في آن ولا يمكن اعتباره مجرد كلام في الأخرويات.
فهو ليس مجرد عقائد معلقة في الوهم بدليل انبنائه على الاجتهاد (صيرورة النظر) والجهاد (صيرورة العمل) واستعماله التربية والسياسة لتحقيق قيمه رمزيا وفعليا.
لكن غرقه مع شلته في قشور المعرفة أوصلهم إلى موقف “لا باليس”. فهم يتصورون أنفسهم مبدعين في اجترارهم معان لا يفهمون دلالتها فيظنوها حدا من قيمة الإسلام وهي في الحقيقة دليل طابعه الثوري.

قضيتي مع المبشرين بقشور الحداثة

ولنمر الآن إلى ما لأجله اضطررت لذكر هذه الأحداث التي أوردتها لوصف شخص كان أول عمل يريد أن يدشن به رئاسته لبيت الحكمة هو حذف أهم قسم في أي أكاديمية: درس حضارتها دراسة علمية.
ابتليت تونس بعاهة عجيبة ترضعها خمسة أقسام منها ثلاثة تدعي الطابع الأكاديمي وواحد ترضعه السياسة والاخير يرضعه الإعلام: الحرب على الأمة بقشور الحداثة.
ومن المنتسبين إلى هذه الأقسام التي تدعي الأكاديمية أي أقسام الحضارة والنقد الأدبي والفلسفة من فهم اللعبة فقلاها. والسياسي هو الموروث البورقيبي يريدون العودة إليه والإعلامي هو سهمهم الحاملة.
وهذه العوامل الخمسة كانت ولا تزال منذ ستين سنة في حرب شعواء بشعارات التحديث ضد مقومات الحضارة العربية الإسلامية خلطا بين أمراضها وكيانها.
لكن سُعارهم انفلت بلا زمام أوعقل منذ أن وقعت الثورة التي كانوا يعلمون أنها لم تبق لهم أدنى امتياز كان يغدقه عليهم النظام المستبد والفاسد.
جن جنونهم لأن كل الأحزاب -هم صوتها الأكاديمي- لم تجمع من إرادة الشعب وأصواته ما يمكن أن يساوي ما جمته قائمة واحدة في العاصمة كنت أنا رئيسها.

حادثة جانبية ذات دلالة

ولا بد هنا من إضافة حادثة هي بدورها مسجلة: حوار مطول بينه وبيني حول علاقة الدين بالسياسة. خاطبي بما يفيد أن كوني وزيرا يفقدني حرية الفكر.
وضمنا هو يعني أنه هو الذي سيتكلم كمفكر حر وأنا سيكون كلامي دفاعيا عن سياسة الحكومة. فكان أن صعق لما بينت له أني وزير مستشار حر الإشارة.
ولو لم أكن كذلك لكان رئيس الحكومة غبيا يطلب من يصفق له لا من يشير عليه بما قد يغفله عنه الالتزام بخط سياسي قد يحول دونه ورؤية الوقائع.
فلما كان رئيس الحكومة يستشيرني لم يكن ينتظر مني أن أأيد خطا رسميا بل هو ينتظر أن أطلعه عن الاحتمالات التي قد يغفله عنها التقيد بالأيديولوجيا.
فنحن بخلاف اليسار -وهو يدعي أنه منه رغم أنه يعمل ليلا عند التجمع يلقي دروسا تكوينه لأزلامه وينشرها له الحزب- نحن لا نعتبر المستشار من النومنكلاتورا بل خبيرا مستقلا وحرا.

زمرة المتنطعين في قسم الحضارة

ولنبدأ بأكثر الفرق المزعومة أكاديمية عبودية لقشور الحداثة مع جهلهم بالفكر الغربي قديمه ووسيطة وحديثه ومعاصره وكذلك بالفكر العربي الإسلامي.
لكن حتى لا نطيل سنكتفي بأمثلة من الأصناف الخمسة. فمن متنطعي الحضارة بدأنا بشيخهم أعني عبد المجيد الشرفي. رسالته في الجدل المسيحي الإسلامي.
وهي سرد لأدنى ما في تاريخ الأفكار من حكايا لأنها في الحقيقة ليست أفكارا بل سباب متبادل بين المسيحيين الذين هزموا في القرون الوسطى والإسلاميين المنتصرين.
وليس فيها علم ولا هم يحزنون: تاريخ معارك كلامية لا تفيد معرفة بالخصم بل محاولة للتنكيد والتنكيل من مرضى من جنس المجترين لقشور الحضارات.
وذكرنا عرضا طالبته التي تدعي أن وجود الغزالي في بيت الحكمة “دعشنة” لها. حمقاء وشمطاء من أغبى ما أنتجت الجامعة لا تستحي فتحاكم الغزالي أذكى فلاسفة الإسلام.

زمرة المتنطعين في النقد الأدبي

أمر إلى الكلام على قسم النقد الأدبي. وسأذكر مثالين كذلك. ولأبدأ فأبجل السيدات. إحداهن كتبت في المنزلة الوجودية للمرأة من خلال قضية الإرث مدعية أنها نصف منزلة الرجل قياسا على ارث الأخت. كتبت ما ألجمها.
ثم عادوا الآن باسم المساواة بين المرأة والرجل مدخلا للتسوية في الإرث. لكني في هذه المرة ألجمتهم جميعا ليس من المدخل الفلسفي ولا من المدخل الديني.
فموقفهم يدل على جهلهم حتى بما يستندون إليه أي حقوق الإنسان. يعتدون على حقين من حقوق الإنسان بالنسبة إلى صاحب الملكية لصالح من يرث بإرادته.
ذلك ان المالك حر بأن يوصي في توزيع تركته بعد وفاته لمن يريد. والإسلام اراد أن يحد من هذه الحرية فوضع قانون الإرث باسم صلة الرحم والإنفاق المنصوح به دينيا.
لكن إذا تركنا الدين جانبا فإن المالك بمتقضى حق الملكية وبمتقضى حرية المعتقد يمكنه أن يختار نظام التوريث الذي يريد. تدخلنا عدوان على حقين.
وكلاهما من حقوق الإنسان: حق حرية المالك وحق حرية معتقده. هو مالك يريد أن يوزع ما يملك بالوصية إذا أراد ويريد ذلك بحسب معتقده فيختار الشريعة.
فما أساس تغيير هذين الحقين؟ وإذن فحتى لو تركنا الدين جانبا فإن دعاة المساواة في الإرث لا يجدون سندا قانونيا لا شرعيا ولا وضعيا لموقفهم.

اما مثال من الرجال فهو كذلك مثال ناقد أدبي مشهور كان جالسا في قاعة الأساتذة وحوله ثلة من طلبته يحدثهم عن القاضي عبد الجبار بتعالم حيرني.
موضة القاضي عبد الجبار وصلت تونس بعد مدة طويلة من اكتشاف أعماله في اليمن بعد حرب عبد الناصر. وكان يسخر من كلامه في الإعجاز القرآني فعجبت.
لم أتدخل بكلمة بل اكتفيت لأخذ الكتاب بأدب -لأنه كان زميل لي في دار المعلمين العليا ومتقدم علي بسنة- وأقلبه ثم رددته له. لم يفهم فأشرت إلى حادثة مشهورة في التنكيت التونسي.
يحكى أن رجلا لا يقرأ فتح جريدة مقلوبة فصاح مفجوعا إذ رأى حادثا مصورا فيها. فمر عليه رجل يفك الحرف فأعاد الجريدة في الوضع الصحيح فزال الحادث منها ومن مخيلة الأمي.
القاضي عبد الجبار الذي هو نظير الباقلاني يسخر منه ناقد أدبي غارق في قشور الـ”هر على من يطيقه” ظنا أنه هو الهرمينوطيقا. هزلت. وهذا كاف.

زمرة المتنطعين من “الفلاسفة”

ولنمر إلى مثالين من الفلسفة. الأول لجهله بالإنجليزية نسيى مفهوم “الصداقة الزائفة” بين اللغات في تشابه الكلمات الذي يظن تشابها في دلالتها. فشوه لغة القرآن.
ولذلك اعتبرت فيلولوجاه قذافية. فالقذافي رحمه الله اشتهر بها كما في مثال شكسبير الذي اعتبره عربيا لأن ذلك هو حسب رأيه تحريف اسم عربي هو لـ”الشيخ زبير”. وصاحبنا اعتبر طاغوت أصلها “طوط” المصرية.
واعتبر “الجبت” هي “ايجيبت” بمعنى مصر. القرآن ألفه محمد -الذي لا فرق بينه وبين شكسبير إلا بعامية الأول وخاصية الثاني- وسرق وحرف فأنتج طاغوت وجبت.
ولا يهم إن كانت لغة العرب فيها طغى وطغيان وطاغوت حتى قبل الإسلام لأن نظريته العبقرية تجب ما قبله بل وتغير الفيلولوجيا لتصح فلسفته اللسانية.
والكل يعلم أنه لا يكاد يحسن من اليونانية إلا مبادئ أولية تتعلم في ربع السنة الأولى من دراسة اللغات الميتة في أي جامعة في العالم. هزلت.

الثاني طيلة حياته الجامعية يخرف حول قانون السقوط الحر وباشلار على أن ذلك درس في إبستمولوجيا العلوم. وقد شاركت معهم مرة واحدة في امتحان التبريز.
فاراد أن يستفزني بمثالين يفيدان قلة التربية والأخلاق لا العلم. فقد سب في أولهما الرسول الخاتم والثاني مدح فيه أكثر الرسل يقدمه الرسول الخاتم أعني موسى عليه السلام. بدأ بالرسول الأكرم في اليوم الأول فقال عنه: إنه حمار.
كان يتصور أني سأستشيط غضبا. لكني أجبته بمنطقه ليتأكد من فشله في استفزازي. كلامك صحيح: فلا يمكن أن يقاس بذكائك أنت العبقرية ابن العبقرية.
ألم تكون أمة ذات امبراطورية عالمية؟ ألست سليل أسرة من المبدعين؟ محمد مسكين يتيم وأبوه لم يكن علامة في كتابة الحروز والشعوذة مثل أبيك.
لم يكفه ذلك فثنى في اليوم الموالي بموسى قائلا : موسى لم يكن عييا كما قد تظن بل كان يجهل لغة الفراعنة ولذلك احتاج لأخيه. وطبعا هو لا يستطيع أن يذم موسى فقد يغضب منه رِبي كنيس تونس.
كيف يفعل وكل من ذكرت هنا يخشون أن يضيع جهدهم للحصول على صفة الحداثي بسب محمد والإسلام وبمدح اليهودية والمسيحية غاية وماركس والعلمانية بداية؟
فقلت له: كلامك صحيح مرة أخرى. فهارون هو الذي ربي في بيت فرعون وليس موسى. ثم سكت وسكت. ما فائدة من أن أواصل الكلام على بدائع وبديع نخب الحداثة المزعومة فهي بلا حد ولا قاع ولا رأس ولا ذيل.

العاملان الأخيران

فهي قد فاقت بدائع وبديع الدجل الثاني الناتج عن انحطاطنا الذاتي عند دعاة المستبدين والفاسدين الذين فضحتهم الثورة وخاصة في مصر. يبقى عاملان.
أولهما موروث البورقيبة. لا حاجة للكلام عليه فهو معلوم للجميع بل لعله هو علة كل ما تقدم في الكلام هنا. وهو يخص أمرين: الأول هو التحقير من الإسلام وحضارته.
و الثاني هو التحقير من العرب وتغذية وهم مرضي عند النخب التونسية التي تظن أن العرب كلهم اغبياء لأنهم ليس لهم ذكاء بورقيبة ولم يتخرجوا من مدرسته المزعومة.
وهذا يعيدنا إلى ما بدأنا به: عبد المجيد الشرفي زعم أن النخب الجامعية العربية في المشرق قالوا له تشجيعا وتكليفا بأنه هو وشلته قاطرة التقدم في الإقليم عامة وفي الجامعات خاصة.
وكلامه مسجل في حوارنا الذي بدأت بالإشارة إليه في هذه المحاولة. وطبعا هو صادق لأنه ربما قد سمع ذلك ممن يسمون أنفسهم ليبراليين في المشرق العربي.

الخاتمة

ولأختم فالمحاولة تجاوزت حد المعقول في ما هو من جنسها: منزلة بيت الحكمة سعيت فيها لإثبات أمرين يبينان معنى خدمة الأمة والوطن والعلم.
الأول كان يمكن أن أصوغ نصا يجعل رئاستها بالتعيين بل وكان يمكن لو أردت أن أكون أول رئيس لها لو لم أكن مؤمنا بالديموقراطية وبضرورة اختيار أفضل ما عندنا في تونس لرئاستها كبداية.
لذلك كانت الرئاسة منتخبة وقد اخترت أن أقنع من اعتبره أعلم جامعيي تونس ليكون أول رئيس لها بعد الثورة بتكليف من أول حكومة منتخبة كنت أحد مستشاريها: الدكتور هشام جعيط.
فالجميع يعلم أنه من العلماء الكبار في التاريخ والجميع لا يجهل أنه علماني وأنه قد أهين من النظامين السابقين ونخبه رغم دعواهم العلمانية والحداثة. لكنه علماني وعالم ومستنير وليس ممن ينحاز إلى الاستبداد والفساد.
وبفضل سمعته العلمية استعادت المؤسسة اشعاعها فحصلت على جائزتين عربيتين كبريين كان يمكن أن يساعداها في تمويل الكثير من مشروعاتها.
لسوء الحظ: بعد قامة جعيط يأتي من كان مسعاه الأول الحرب على القسم الوحيد الذي أضافته روح الثورة لمؤسسة أكاديمية ينبغي أن تخدم أمتها بالعلم.
فحوالي ستمائة ألف دولار -مقدار الجائزتين- أي ما يعادل مليار وخمس بالدينار التونسي قد تتحول إلى تمويل إفساد المؤسسة بمنطق ملئها بـ”الشلايك” من هذا الرهط ليضمن بقاءه في الانتخابات المقبلة.

وطبعا لن أسمح بذلك. وسيعلم هو ومن قد يسانده من بين من لجأ إليهم في قرطاج ليحرف المؤسسة عن مهمتها أن حمايتها ستكون قضية مصلحة وطنية لن أكون فيها وحدي.
ولحسن الحظ فلا أحد من المجلس العلمي أيده في إزالة قسم العلوم الإسلامية لان الحكمة سادت ولم يتبعه أحد في مسعاه المغرض ضد أهم مهام المؤسسة.
لم يبق إلا الصحفيون أبواق هذه الأرهاط. هل يستحقون أن أكتب عنهم؟ اقرأوهم واسمعوهم في تونس ومصر وحتى بين ليبراليي الخليج لتحكموا على أهليتهم.
لذلك فيكفي ما قيل. وليقفل ملف الكلام على ماضغي قشور الحداثة. وكل ما كتبته هنا شهادة للتاريخ وأنا مستعد أن أواجه أي قضية يرفعها ضدي أي ممن أشرت إليهم.
الآن فرغت من فضح بعض دجالي الحداثيين المزعومين. وبداية من اليوم سأستأنف الكلام في فرادة القرآن الكريم والذكر العظيم بعد توقف خلال إجازة العيد..

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock