مقالات

فـرح للشّـراء

ليلى حاج عمر

أنا أيضا اشتريت اليوم تلك السيّارة الصّغيرة التي تجري مجنونة على الرّصيف ولا تتوقّف فإذا اعترضها جدار صعدته قليلا لتنقلب إثر ذلك وتعود لتجري في الاتّجاه المعاكس لا تلوي على شيء. كنت أشقّ الشّارع المزدحم بالعابرين أحثّ الخطى لاستخراج وثيقة من إدارة قريبة من هناك حين استوقفني أزيزها وحثيثها على الرّصيف.. وجدتها.. وجدتها.. هي نفسها السيّارة التي قال لي ابني ابن 17 ربيعا الأسبوع الفارط مازحا كعادته: هل تعلمين ماما؟ وأنا صغير حرمتني من شراء سيّارة كنت أريد شراءها.. سيارة صغيرة تجري مجنونة..

قلت له مستنكرة: كانت غرفتك ملأى باللّعب وبالسيّارات والقطارات والطّائرات.. فكيف حرمتك؟ قال لي: كنت أريدها هي ولكنّك قلت لي: لديك الأفضل. يا إلهي.. هي السيّارة التي يريدها ابني. أسرعت إلى البائع المتجوّل وكان شابا بشوشا وقلت له دون سؤال عن الثّمن: أريد هذه السيّارة.. أريدها حمراء. ورويت له قصّة ابني مع السيّارة وقلت له: لا أريد أن يبقى في نفس ابني شيء من سيّارة.. وتركته ضاحكا من أمّ مجنونة.. في الأثناء تذكّرت أنّ ابني يحبّ اللون الأزرق فقلّل هذا من فرحي ولكني خجلت من العودة إلى البائع. يكفي أني حصلت عليها.

في الأثناء كان الشّارع يزداد ازدحاما وصار عبوره مغامرة.. كلّ كان يبحث مثلي عن فرح يشتريه.. وكان ثمن الفرح في الواجهات المزدانة بأنواع البضاعة من أحذية أطفال وفساتين فتيات ترفّ فيها الفراشات والزّهور ثمنا باهضا. وكان الآباء يجرّون أطفالهم جرّا من مغازة إلى أخرى بحثا عن فرح يضاهي المتاح لديهم من ميزانيّة تاهت بدورها وسط زحام الأسعار وأزمة الاقتصاد.

على الرصيف اصطدم بي طفل ابن أربع سنوات تقريبا أفلت من يد أمّه غاضبا وكان يدقّ الأرض بقدميه وكانت أمّه تتبعه جاهدة وهي تحاول الإمساك بيده وتمسك باليد الأخرى ابنتها الذّاهلة عن العالم وتناديه قائلة: أنا من لا يسمع كلامي أكرهه.. لن أشتري لك إلّا ما أريده أنا.. فيجيبها وهو يزيد في دقّ الأرض بقدميه كعسكري بريطاني: بل سأشتريه ذلك الحذاء الرياضي الذي يضيء عند السّير ولن أشتري غيره.. لم أحبّ طريقة كلام المرأة ولكني تعاطفت معها وأردت مساعدتها فربّت على شعر الطّفل في تودّد وقلت له: أمسك بيد ماما واسمع كلامها. فنظر إليّ نظرة شزراء قطعت أنفاسي فوضعت يدي على فمي وقلت له: آسفة لن أنبس بكلمة ثانية.. خفت أن يشهر في وجهي مسدّسا من تلك المسدّسات البلاستيكيّة صينيّة الصّنع التي تباع أيضا على الأرصفة أو رشّاشا روسيّا أو سلاحا من أسلحة الرشّ التي تباع دون رخصة فيصرعني بضربة واحدة ويتركني مجندلة. كان عابسا مكفهرّا كجنرال على أرض المعركة وكانت معركته حذاء رياضيّا مضيئا ولم يكن معنيّا لا بميزانيّة الأمّ ولا بتعبها ولا بأزمة الاقتصاد ولا بإفلاس الدّولة ولا بقروض البنك الدوليّ وصندوق النّقد ولا بحكومة الوحدة الوطنيّة ولا بالمحاصصات الحزبيّة ولا بإعلام العار.. كلّ ما يعنيه حذاء يقفز به أمام أصدقائه يوم العيد فتشتعل جنباته.. هو الفرح لديه.. هو حقّه المشروع في الفرح.. وكان يريد شراء هذا الفرح..

أمّا أنا فكان الفرح لديّ في أن أحصل على السيّارة الصّغيرة التي كادت تصيب ابني وقرّة عيني بعقدة نفسيّة نسيها سيغموند فرويد، وأن أعود إلى البيت بسرعة بعد قضاء شؤوني لأقدّمها إليه أخيرا بعد طول حرمان. لكنّ ابني نظر إليها ذاهلا وهي تجري في البيت وتصعد الجدار ثمّ تنقلب وأنا أسرع وراءها فرحة. ابتسم بعد ذهول قائلا: ملّا ماما.. ثمّ أضاف بلهجة جادّة: ماما هل أنت بخير؟ فقلت: أجل أجل أنا سعيدة.. سعيدة اليوم.. لقد حقّقت رغبتك الطّفوليّة.. أشعر بأجواء العيد حقّا..
أجاب بصوت رجل: فمّة عيد ؟
كان يريد أن يبرهن على أنّه كبر فهو لم يعد يشتري لعبا وثياب العيد منذ سنوات ولكني وأنا أفتح باب غرفته بعد برهة وجدته يقلّب السيّارة الحمراء مبتسما ويتفحّص مكوّناتها وطريقة سيرها قبل أن يفسح لها العنان لتجري في أرجاء الغرفة وجدرانها..

سيظلّ اللّعب على الأرض جوهر الإنسان والمرح والفرح حقّه الأوّل في الوجود بعيدا عن تلاعب السّاسة بالشّعوب وتلاعب اللصوص بالاقتصاد وتلاعب الإعلام بالعقول وتلاعب المتلاعبين بالإنسان اللّاعب على هذه الأرض.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock