مقالات

جدلٌ في القرآن…

نور الدين الغيلوفي

(وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)… قرآن كريم
تنويه: يجد القارئ الكريم هنا نقلا حرفيا لرأي الأستاذة نائلة السليني بشأن برنامج وزير الشؤون الدينية في تعليم القرآن الكريم للناشئة.. وقد حرصتُ على أن أنقل الكلام كما هو باللهجة العامّية التي تتكلّمها أستاذة الحضارة بالجامعة التونسية كلّما جادت بها علينا منابر الإعلام، وهي لا تتكلّم غيرها لضرورة بيداغوجيّة ربّما!.. لذلك قد تجدون رواية لبعض آي القرآن الكريم كما وردت على لسانها، حرصا منّي على نزاهة النقل بعيدا عن السجال الإيديولوجي الذي لا أراه مفيدا في مثل هذه المجالات:

قالت الأستاذة:
“راوّ ما ننساوش القرآن منذ خمْسةَ عشرَ قرْنْ الناس عاجزة باش تحفظو وتدرسو.. أنا نبدا لك بالطرف بالطرف.. ها لوليدات اللي باش تجيبهم ساعا الابتدائي والثانوي وإلّا الابتدائي فقط؟ كي باش تجيبو آش باش تقرّيه آك اللي م الابتدائيّ؟ باش تقرّيه ” فاقتلوهم حيث ثقفتموهم” مثلًا؟ باش تقرّيه، وتنزع نظّارتيها عن عينيها وتقلّب أوراقها بحثا، بعض من الآيات.. هاو نعطيك “وأعدّاو لهم ما استطعتم من قوّة من رَباط الخيل ترهبون به عدوّ الله” (هكذا)، تقول ذلك وهي تدفع بكلتا يديها وبريق بعينيها، باش تحفّظهالو؟ باش.. “فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم” ؟.. باهي يا سيدي هيا قلنا موش هاذم.. في ما يخص المرأة باش تقرّيه الآية 34 من سورة النتاء ! (هكذا).. النساء “واللائي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهن في المضاجع واضربوهنّ”؟”.

1. قد لا تحتاج أقوال الأستاذة تلك إلى ردّ، لتهافت بها بيّن ولقصور تجلوه عاميتها المسيطرة على لسانها ولعِيٍّ فاضح في حججها.. ولكنّ بعض النقاش في بعض الأحيان مفيد، فقد يكشف من الخفايا ما لا تفصح به الألسنة…

2. المعركة بين مشروع وزير الشؤون الدينية في تحفيظ القرآن للناشئة وبين خصومه ممّن يرون في ذلك ضررا (للوليدات) ليس مجالها الدين وليس طرفاها أنصار الدين وخصومه.. ولا نريد للدّين أن يكون عامل فرقة بين الناس والحال أنّه إنّما جاء ليعترف بالاختلاف وليحترم حتّى أولئك الذين يجاهرون برفضه وبتحميله أسباب تخلّف الأمّة.. وقد نصّ القرآن على أن الاختلاف آية.. وقديما قال أبو الطيب المتنبّي: “وبضدّها تتبيّن الأشياءُ”.

3. بعض أساتذتنا الجامعيين اتخذوا من النصوص الدينية موضوعا لدراساتهم تأثّرا بخلفيات مختلفة منها ما هو مبدع ومنها ما لا إضافة فيه.. وهم وإن اتخذوا من النصوص الدينية موضوعا للدراسة إلّا أنّهم لم يكتسبوا من عدّة الدرس شيئا، فلا تكاد تجد لديهم منهجا واضحا ولا فكرا مقنعا لأنّهم ُيظهرون انفعالا إيديولوجيا فاضحا بدل الرصانة العلميّة التي تفرض نفسها عادةً لا سيما في مثل هذه المواضيع.. ولقد حصرتهم نظرتهم الإيديولوجية لضيقها في زاوية واحدة وحجبت عنهم غيرها.. فضيّقوا واسعا وكان أحرى بهم ألّا يتسرّعوا…

4. القرآن عمره خمسة عشر قرنا من الزمان.. ولا خشية عليه من التفرّق والتلف والنسيان، وقد أيقن المؤمنون به أنّ صاحبه قد تعهّد بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).. حافظ النصّ على سطوته على مرّ التاريخ فلم تؤثّر فيه إرادات خصومه التي لن يكون آخرها سِفر (الفرقان الحقّ) الذي صدر سنة 1999 بالولايات المتّحدة الأمريكية، وهو كتاب باللغة العربية به استنساخ لكتابات رأى واضعوه أنّها مطابقة للقرآن، وقد أدمجوا فيه عناصر من تعاليم المسيحية التقليدية” وغيّروا كلّ شيء حتّى البسملة التي صارت “باسم الأب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد”.. وظلّ النصّ القرآنيّ رغم جميع المحاولات لطمسه وتلبيسه يتمدّد ولا ينكمش نتيجة إرادة بشريّة راسخة تعتقد أنّها تحقّق مشيئة السماء بحفظ النصّ في الصدور وعبر مختلف الوسائط بل في الوجود بأسره.. وإذن فمدار الحديث ليس هو الدين ولا هو القرآن.. ولكنّ الإنسان هو مدار الحديث في حقيقة الأمر…

5. الإنسان والتعلّم قرينان.. فلا إنسان بلا تعلّم.. ومن وظيفة القرآن في الثقافة العربية أنّه يساعد على تكوين الرصيد المعجميّ لدى الطفل الذي يحفظه في سنواته الأولى، لأنّ بالقرآن حسب باحثة اللسانيات الدكتورة سهير السكري 50 ألف كلمة متى حفظها الطفل أغنت رصيد الكلمات لديه.. وترى الباحثة أنّ العالم العربي اليوم لم يعد ملمًّا بلغته العربية، بسبب انتشار اللهجات العامية بين دوله وانتشار اللغات الأجنبية بين طبقة المثقفين (وجامعيّتنا مبرّزَة في اللهجة العاميّة)، ممّا أدى إلى ظاهرة من الازدواجية اللغوية.. تقول الباحثة إنّنا اليوم أمام “أمة عربية بلا لغة”…

6. إنّ القرآن بهذا الفهم ليس مجرّد نصّ دينيّ من شأنه أن يحصر تابعيه في رؤية عقديّة ضيّقة، ولكنّه منجم جاهز من شأنه أن يغنيَ رصيدَ الطفل العربيّ اللغويَّ وأن يجهّزه بثروة من الكلمات تساعده على تنمية خياله.. تقول الباحثة إنّ حصيلة الطفل الغربي اللغوية 16000 كلمة وهو في عمر ثلاث سنوات في حين أن الطفل العربي محصور في اللهجة العامية، وهي لغة الأم في البيت. والعامية محدودة، ومحصّلتها 3000 كلمة فقط يتعلّمها الطفل ولا يكاد يتعلّم غيرها حتّى يدخل المدرسة.. ولقد أدركت الدول الاستعمارية عندما دخلت إلى المنطقة، حسب قراءة الباحثة، أنّ سرّ جبروت الفرد العربيّ المسلم الذي هيمن على العالم في فترة من التاريخ، إنّ هذا الجبروت إنّما يعود إلى البيئة التعليمية الحاضنة.. فالطفل ذو الثلاث سنوات، الذي يبدأ حياته بحفظ القرآن الكريم ثمّ يتبعه بألفية ابن مالك، ينشأ طفلا جبّارا تصعب هزيمته وترويضه.. وقد شرعوا لذلك في القضاء على الكتاتيب القرآنية بمختلف الدول العربية التي سيطروا عليها.. وانتهى الأمر بالطفل العربي إلى أن صار يدخل إلى المدرسة في سنّ الست سنوات وقد أضاع أمرين: أضاع سنوات تعلّمه الأولى من جهة وخسر رصيد الــــــ50 ألف كلمة التي اشتمل عليها القرآن الكريم وخسر معها الألف بيت التي وضعها ابن مالك في علم النحو.. يدخل الطفل العربيّ إلى المدرسة فقيرا يتعلّم لغة عربيّة غريبة عنه ويخرج منها برصيد هزيل.. وقد كان من قبلُ منذ طفولته الأولى ينهل من القرآن فتكون له حصيلة لغوية ثريّة تكوّن لديه خيالا خلّاقا وتساعده على الإبداع والابتكار…

7. إنّ الكتاتيب القرآنية التي ترتاب فيها الأستاذة وتتوجّس منها هي التي استقبلت الجاحظ والمعرّي والمتنبّي وابن خلدون وابن رشد والطاهر بن عاشور والطاهر الحدّاد.. كما تعلّم فيها بشّار وأبو نواس ونهل منها ابن عربي والغزالي بل ودرس بها ابن الراوندي وما أدراك ما ابن الراوندي.. حفظ هؤلاء الآيات المذكورة وفهموها كلّ من موقعه ولم تكن عائقا في طريق الإبداع.. فعلام حملة الأستاذة المسعورة على برنامج وزير الشؤون الدينية؟

8. نأتي الآن إلى الآيات التي ترى بها الأستاذة عيوبا قاتلة لا تناسب (الوليدات) ولا توافق ما ترجوه لهم من ثقافة مسنتيرة.. ونأخذ على سبيل المثال الآية 34 من سورة النساء التي تشغلها “وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا”…

9. إذا سمعت تعليق الأستاذة على الآيات التي دوّنتها بوثيقتها المصاحبة عرفت أن لا فرق بينها وبين المتديّنين المتشدّدين، بل إنّ فهمها إلى فهم العوامّ أقرب.. إذ هي مثلهم تكتفي من النصوص بظاهرها وتفهمها فهما حرفيا فتسقط في ما يسقط فيه هؤلاء من سوء فهم.. وسوء الفهم قد نجد له ما يفسّره لدى قوم لم يدرسوا بجامعة، ولكننا لا نفهم صدوره عن أستاذة تدرّس الطلبة النصوص ومناهج القراءة.. أصحاب الفهم الحرفي يقرأون الآية “واضربوهنّ” فيفهمون أنّ الشارع يأمر الرجال بضرب النساء.. يمتثل المتديّنون منهم فيؤذون النساء باسم الدين ظلما وعدوانا، وأمّا غير المتديّنين فيستنتجون أنّ قرآنا يأمر بالضرب لا يستحقّ أن يعيش في زمن حقوق الإنسان…

10. لقد كانت الأستاذة عاميّة في فهمها أغراها السطح فارتبكت في محاججتها ولو أنهاّ كلّفت نفسها بعض البحث في التفاسير القرآنية أو في بعض أدبيات تحليل الخطاب لما وقف بها التفكير عند هذه السطحية ولاحترمت نفسها ومنزلتها العلمية بين طلبتها وزملائها.. ولكنها شاءت أن تخوض معركة بغير أدوات فتقع فريسة الجهل والتسرّع…

11. لا تفتأ الأستاذة تردّد في محاوراتها أن القرآن حمّال أوجه فلماذا اكتفت في فهمها بوجه واحد حملت عليه الآيات التي احتجّت بها لتدافع عن موقفها من تدريس الناشئة القرآن؟ أما كان عليها أن تزور معاجم اللغة على الأقلّ لتعرف معاني “النشوز” و”الضرب”؟ فلماذا اطمأنّت إلى فهم سطحيّ ردّها إلى الأميّة؟ هل تعلم الأستاذة أن قراءة نصّ قانونيّ ما لا تقودنا ببساطة إلى فهمه إلّا متى استصحبنا بعض المذكّرات التفسيرية المصاحبة؟ فهل استصحبت معها لفهم النصوص شيئا؟

12. لو علمت الأستاذة أنّ الضرب شهوة وعرفت ما قاله القرآن في الشهوات لأدركت أنّ الشهوات في القرآن غير متّبعة وأنّ الضرب شرّ لا يمكن أن يدعوَ إليه كتاب يدعو إلى الخير ولعرفت أنّ الذي نزل عليه القرآن قال: “لا يضرب خيارُكم”.. ولو عادت الأستاذة إلى فعل “ضرب” في القرآن لفهمت معاني الضرب المختلفة بعيدا عن حدود سطحيتها…

13. إنّها لو حاولت الفهم لعلمت أنّ الآية التي تتّهمها بإفساد (لوليدات) لو طالعتها المجتمعات الأخرى لتخلّصت النساء من عنف الرجال.. لعلّها لا تعلم أنّ 77 % من رجال بريطانيا يضربون نساءها لأسباب غير واضحة كما تقرّر بعض المؤسّسات الحقوقيّة.. وهل تدري الأستاذة أنّ 70% من نساء أمريكا يعانين من الضرب المبرّح من قبل الرجال؟ هل تعلم الأستاذة أنّ رجال بريطانيا وأمريكا لم يحفظوا في طفولتهم آية قرآنية تقول “وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا”؟ ولو أنّهم حفظوها لقدّروا النساء حقّ قدرهنّ ولعلموا أنّهنّ شقائق الرجال ولعُصمت النساء من العنف المسلّط عليهنّ…

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock