أبو يعرب المرزوقي
الفصل الأول
ماذا يمكن أن يكتب حول العودة الرمزية في غزة :
1. من يرفض البكائيات حول الوضع
2. واللوم على مواقف الأنظمة العربية
3. وبيان أكاذيب إيران وحزب الله
4. والمزيد من التفتين بين الضفة وغزة
5. وأخيرا الحجاج الحقوقي الدنيوي أو الأخروي؟
هل بقي شيء يمكن أن يقال في المضمار؟
فالبكائيات تعبير العاجزين ولا أعجز منا حاليا. وتلاوم العرب تعبير المتواكلين ولا أكثر منا تواكلا. وأكاذيب إيران وحزب الله تعبير المخادعين ولا أكثر خداعا من الباطنية. ومزايدة الحركات المقاومة لا يوجد ما هو أكثر تعريفا لها في فلسطين وفي الثورة. وإذن فهذه مسالك مسدودة ولن أسلكها.
نعم يوجد الكثير مما ينبغي أن يقال وهو ذو صلة بما أكتب وكان ينبغي أن يكون أول شيء يقال: فما يحدث ليس قضاء ولا قدرا بل هو معلوم العلل التي نهرب من الكلام فيها بالبكائيات والتلاوم والانتباه إلى المخادعين وأولهم نحن عندما خدعنا أنفسنا مدعين أننا نصدقهم والتفتين بين حركات المقاومة.
والجامع بين هذه المهارب كلها أمران: رفع الأكف بالدعاء على المعتدين وطمأنة النفس بالكرة الثانية التي ننتظرها وكأنها ستحصل بذاتها دون شروطها رغم أننا نعلم أن ذلك مشروط بما كان يعمل به الجيل الذي أنشأ دولة الإسلام وعلى رأسهم الرسول نفسه: لم ينتظر معجزة بل اجتهاد وجاهد بمنطق العصر.
وأول شيء ينبغي أن أقوله رغم كونه صادما فما يحدث فيه الخير الكثير لأنه هو الذي سيجعل شبابنا يفهم أن كل ما يقال عن الأمة وخاصة عن حقبة النشأة كان مشوبا بما أسقطناه عليه من عيوبنا: لم يحدث ما حديث بمعجزات وإلا لما شارك الرسول في أكثر من ستين معركة باستراتيجية أنجزت ما ورثنا.
وإذن فكلامي لن يتعلق بالتباكي ولا بالتلاوم ولا بالتكذيب ولا بالتفتين ولا بالاحتجاج الأرضي والسماوي بل بتوصيف الوضع ولما هو داع للاطمئنان. فالأمر يتعلق بحديث المستقبل الذي يرسم استراتيجية أحداثه من خلال فهم ما في حديث الماضي من تحريف لدلالة أحداثه فأصبحت أكبر عائق للاستئناف.
فدون الاستئناف وشروطه كل ما يجري حاليا ليس إلا بداية ستكون نهايتها خروجنا من التاريخ والجغرافيا تماما كما حصل للهنود الحمر لأن فاعليها هم أنفسهم الذي سموا أمريكا الأرض الموعودة الجديدة والذين يعتبرون الوصل بين الأرضين الموعودتين شرطه معاملة سنة الإقليم معاملتهم للهنود الحمر.
فالمقاومة يمكن أن تستغني عمن يتباكى عما يحدث لها إذا عملت ما طبيعتها التي تقبل التعريف القانوني بكونها ذات وظيفتين لا تتعداهما: فهي المشاغبة التي تحول دون الحوز والتحول إلى ملكية لأنها شهادة على وجود صاحب الحق وعلى بقاء الفرق بين الحوز والملكية حيا في ضمير الأمة والإنسانية.
من لم يغفل هذه الطبيعة يطالبها بما يخرج عن مستطاعها فلا يضع لها استراتيجية تحقق هذا الغرض بمنطق العصر الذي يجعل المعتدي يخسر المعركة اللطيفة أو الخلقية قبل خسران المعركة العنيفة أو العسكرية. وكل قلب لهذا القانون الكلي والأبدي مهما تغيرت الظروف دليل جهل ينبغي أن نتجنبه.
ومن يقع فيه يحقق العكس تماما: يخسر المعركة اللطيفة أو الخلقية قبل العدو والمعركة العنيفة مخسورة بالطبع وإلا لما احتاج إلى المقاومة التي علتها أن العدو صار صاحب الحوز ويسعى لجعله ملكية. وهذا القانون يصح حتى على علاقة الأفراد بعضهم بالبعض فضلا عن علاقة الشعوب والدول.
ولأن العدو لا يجهل هذا القانون فهو يتدخل في المقاومة ليدخل فيها بالاختراق ما يجعلها تخسر المعركة اللطيفة والخلقية قبله كما فعلوا مع الثورة في سوريا. فالمقاومة السورية لم يغلبها النظام ولا إيران ولا ميليشياتها ولا حتى بوتين بل الجماعات التي اخترقوها ليجعلوها تقلب هذا القانون.
فالدعشنة تقلب القانون لأنها توهم بأنها قادرة على ربح المعركة العنيفة أو العسكرية بإفساد المعركة اللطيفة أو الخلقية فكانت علة الخسارتين فيهما. فما تتوهمه قدرة عنيفة وحتى لطيفة كان بقصد من عدوها حتى تخسر المقاومة بقلب القانون: والقانون يجعلك تفصل عدوك عن شعبه وتصل نفسك بشعبك.
وقد كتبت في ذلك مقالا أرسلته للمقاومة العراقية عندما طبق بعض قياداتها ما سموه «توب تان» وعلقوا بعض الجنود الأمريكيين على الجسور بعد أن قتلوهم وحرقوهم. فهذا العمل البشري قد يشفي غليل الحمقى لكنه مناف لأخلاق الإسلام أولا ومناف لكل مقاومة ذات عقل تسعى لفصل العدو عن تأييد شعبه.
فحتى فياتنام التي كان وراء مقاومتها دولة فياتنامية وقوتان عظميان تجنبت الوقوع في مثل هذا الخطأ الاستراتيجي وكان لدور الشعب الأمريكي في هزيمة الجيش الأمريكي قدرا كبيرا من التأثير وهو ما يخسره من ينسى هذا القانون في مقاومة الضعيف ماديا والقوي خلقيا لعدو قوي ماديا وضعيف خلقيا.
أعلم أنه سيقال إن الشعب الأمريكي تحرك ليس لعلل خلقية بل لما رآه من جثامين أبنائه. وطبعا لا يمكن أن أنكر أن لهذا العامل الثاني الدور الرئيس لان العامل الأول ليس نقيضه بل هو البعد الخلقي فيه. فلو كانت هذه الجثامين تأتي ممثلا بها لكانت قد أنتجت العكس تماما أي تأييد الحرب الأمريكية.
ولهذا تفهم علة حرص الأمريكان والروس وإسرائيل وإيران والنظام السوري على أن تكون داعش أشرس ما يكون حتى يحققوا ما قصدت. ما يفصل بين العدو وشعبه ويحقق الوصل بين المقاومة وشعبها ليس نفي العنف بإطلاق فلا مقاومة من دون عنف ولكن صبغه بعدم الأخلاق بإطلاق وجعله توحشا خالصا.
وقد رأينا فنيات العدو في هذه الاستراتيجية في العراق وهي مثلثة وفي سوريا مثلها وكانت ما يماثلها موجودا في فلسطين حتى وإن كان أقل منها بشاعة رغم كونه من نفس الطبيعة. فتفجير المساجد والمراقد في العراق يفيد الأمريكان وإيران ويضر المقاومة ووحدة الشعب العراقي. ومثله تفجير مدرسة أو مقهى.
فهذا ليس مقاومة بل هو فش غيظ أو شفاء غليل يمكن أن يفهم في علاقة الأفراد وهو ذو دلالة على أحوال النفس وليس عملا استراتيجيا في معركة طويلة لا تربح إلا بالجمع بين بعدي كل حرب اللطيف أو الخلقي والعنيف أو العسكري بشيء من الفروسية حتى لو كانت نفاقا دبلوماسيا.
ولا أحتاج إلى من يذكرني بأن حماس تخلصت من هذا الخطأ منذ أمد طويل. لكن أثر ما تقدم وخاصة منذ 11 سبتمبر جعل الخلط بين المقاومة والإرهاب ليس عند العدو وحده بل عند الأنظمة العميلة ونخبها الطبالة من أقوى الحجج لتبرير الإعلان عما نعلم أنه كان موجدا في السر: التطبيع مع إسرائيل.
ولا فائدة من مناقشة التبرير. فالعلة ليست سلوك المقاومة بل طبيعة المحميات العربية. فالثورة هي التي صارت عندهم أخطر من إسرائيل ومن إيران ليس على الأوطان لأنها آخر همومه بل على الكراسي. أما الأوطان فهم ناهبوها أكثر من العدو الذي يكتفي بأجر حمايته لهم جزية يدفعونها صاغرين.
وأذكر أني بعثت رسالة مفتوحة للمرحوم أبي عمار داعيا إياه لثلاثة أمور:
1. إيقاف كل مقاومة عنيفة مهما كانت مشروعة حتى لو اقتصر على الحجارة واعتماد العصيان الشعبي والمقاومة المدنية بإطلاق لتجنب الخلط بين المقاومة والإرهاب.
2. أن يجعل من يتكلم باسم القضية من أجمل شباب فلسطين بجنسيه.
فالخطاب السياسي المهم فيه الشكل وليس المضمون. والتوجه للشعب الأمريكي يعني التوجه لمن يهمه الشكل وشتان بين كلام ناتنياهو وكلام عرفات الذي لا يحسن الإنجليزية ولكنته وحتى مظهره (عذرا) يجعل المستمعين يقفلون التلفاز ويبحثون عن فضائية أخرى. وهذا هو الأمر الثاني: خطة التواصل.
3. والأمر الثالث وهو الأهم أن يقترح دستورا للدولة في الفرضيتين المطروحتين يكون نسخة مطابقة للأصل من الدستور الأمريكي: سواء كان الحل هو حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة ذات القوميتين. وطبعا لم أكن غافلا على أن ذلك حملة تواصلية لا غير فقانون السياسة ما يبدو حقيقيا لا الحقيقة.
وأخيرا فإن قاعدة بورقيبة مهما قلنا في الرجل فهي القاعدة الذهبية في كل عمل سياسي بعيد النظر: التمسك بالحق ضروري لكن انتظار حصوله كله دفعة واحدة ليس من الحكمة في شيء. صحيح أن السادات قد عقد صلحا مع إسرائيل وفيه ضرر بالصف العربي. لكن هل كان الصف العربي غير ما خرج الآن إلى العلن؟
ما هو الخير العميم الذي أنسبه إلى الوضع الراهن؟ لم يعد الموقف الخائن لقضية فلسطين وحده هو الذي تجرأت على إعلانه الأنظمة العربية المستبدة والفاسدة ومعها أدعياء الممانعة بل الاستبداد والفساد الذي يحرك كل الشعوب بدافع ذاتي وليس بدافع التضامن مع الفلسطينيين لعلل روحية فحسب.
لم يعد المحرك للثورة غير مباشر غضبا لفلسطين أو ضد التطبيع بل المحرك هو المصالح المباشرة لكل الشعوب التي صارت كلها مقتنعة بما طالبت به ثورة الشباب بجنسيه ولهذه العلة فالعامل المؤثر اليوم عند الأنظمة العميلة هو طلب النجاة من الثورة وهو ما لم يجدوا فيه مساعدا غير إسرائيل.
فصارت الشعوب لا تعادي إسرائيل بدافع غير مباشر هو ما تفعله في الفلسطينيين بل تعاديها لانهم في وضع من يحس «الجمرة» لأنها تحرق بدنه هو مثل بدن الفلسطيني: الفرق الوحيد أن إسرائيل تفعل مباشرة في فلسطين وبصورة غير مباشرة في بلادهم بواسطة نظامهم المستبد والفاسد.
ولأن إسرائيل لها استراتيجيون أذكاء فقد سعت لأن يكون فعلها غير مباشر حتى في فلسطين وهو معنى الفصل بين الضفة وغزة. فهي كونت دويلة بلا سيادة إسمها الضفة وربطت نظامها بها فصار هو الذي يقوم مقامها في الكثير مما يشبه ما يجري في بقية بلاد العرب: كلاها ضفية وغزية حاليا.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.