تدوينات تونسية

تنافس المشروعات ما سر استراتيجيته وشروط نجاحه ؟

أبو يعرب المرزوقي
حاولت وصف الوضع الاستراتيجي العالمي انطلاقا من متطلبات الاستراتيجيا المعدة للأدوار في نظام العالم الجديد أو بمنطلقات ما اعتبره نتائج ما يقبل الرد إلى مقدمات هي في الحقيقة ما يؤسس لموازين القوة بين الشعوب التي تتنافس على مطالب بقائها المادية والروحية.
فما بين الجماعات وما في داخل كل واحدة منها وصفه ابن خلدون بمعيار لحمة الجماعة أو العصبية بقانون فيزيائي يتعلق بما تخضع له الموجات الدائرية للماء عندما نرمي فيه حصوات متعددة فتتراكب الأمواج الدائرية الصادرة عن وقع الحصوات وتتجاور وتتداخل فيما يشبه التمانع.
وقد ورد هذا الوصف الذي يحدد قانونا فيزيائيا لما بين القوى في داخل اي جماعة وبينها وبين أجوارها منافسيها على القوة بوجهيها المادي والروحي وبمطالب الوجهين أي شروط العيش وشروط السلطان على مصادره بالقوة المادية وبالقوة الروحية (أي العلم والعمل المدركين لقوانين الطبيعة والتاريخ).
لكن اكتشاف القانون وقدرة الانسان على تغيير الشروط أداة لتغيير المشروطات يجعل هذا القانون مثل كل القوانين أداة تغيير وليس إيمانا بالحتمية التي لا يمكن للإنسان تغييرها: يعلم الأنسان القانون الطبيعي للعلاقات البشرية في داخل الجماعة الواحدة وبين الجماعات فيستعمله للتغيير.
وهذا هو معنى العمل على علم. وهو جوهر كل استراتيجية تخطط للعمل لئلا يكون رماية في عماية. وكل تخطيط استراتيجي نسبي إلى العلم بمجال العمل التنافسي العائد إلى رمز الفعل (القيم الاقتصادية ممثلة في الغاية بالعملة) وإلى فعل الرمز (المعاني الثقافية علما وفنا ممثلة في الغاية بالكلمة).
ونسبية الاستراتيجيا إلى العلم بالمجالين يقتضي بقاء ما لا يستطيع الإنسان توقعه بمطلق الدقة فيبقى في الاستراتيجيا دائما قسم معتبر من المفاجئ الذي لا يقدم عليه الإنسان في عمله إلا بالاستناد إلى ما يشبه المغامرة. وكل مغامرة تستند إلى عاملين: حساب الاحتمالات والإيمان فيما لا يقبله.
وحساب الاحتمالات من جنس نظرية الالعاب غايته الترجيح دون الاعتقاد المطلق. لكن الحروب التي تلازم هذه الرهانات داخل الجماعة وبين الجماعات لتعلقها بالتمانع في تحصيل شروط الحياة والمنزلة رهانها الحياة والموت لا يكفي فيه حساب الاحتمال: لا بد فيها من الإيمان.
وإذن فلا يمكن تصور جماعة بدون دين: لأن العمل على علم يحتاج إلى العمل على إيمان. والعلم مهما بلغ من الدقة يبقى نسبيا ومن ثم فالإنسان لا يقدم على الحروب والتمانع من دون إيمان يتجاوز النسبي الذي يشكك في العمل وفي مقدار التضحية فيقدم على مغامرات مدارها الحياة والموت.
وإذن فلا يمكن تصور التاريخ من دون مرجعية ذات وجهين: علمي وديني. العلم لحساب الاحتمال الذي يرجح ولا يحسم والديني يتجاوزه إلى اليقين فلا يكتفي بالترجيع بل يحسم. وطبعا فالأول يحد من جرأة الثاني والثاني يحد من تردد الأول. فيكون الفعل على علم وإيمان ليحصل قرار الإقدام عليه.
ويمكن رد هذه الحقيقة العميقة إلى أمر يبدو بسيطا نصح به الرسول تمييزا بين التوكل والتواكل: “اعقلها وتوكل”. فالعقل هنا من العقال ومن العقل في آن. فهو من العقال إذا قصرنا الكلام على الدابة وهو من العقل إذا علمنا أنه ضروري في كل عمل. وموضوعي هو هذه الخاصية الجامعة بين العلم والإيمان.
قانون ابن خلدون أو تشبيهه العلاقة بين العصبيات الجزئية في نفس الجماعة أو الكلية بين الجماعات ورد في ترجمته الذاتية -التعريف-ونحن نحاول في هذا البحث تعديله ببيان أن التاريخ لا يخضع لقوانين الطبيعة الحتمية بل هو يخضع لقابليتها لأن تكون أداة للعمل على علم في أفعال الإنسان كلها.
فحتى العامي يعمل على علم وعاميته ليست نفيا للعمل على علم بل هي دليل على مستوى علمه. فالعلم متعدد المستويات وهو متناسب مع الغايات التي هي ذوقية وليست معرفية كما بينا فيما سبق من المحاولات. الذوق بمستوييه المباشر (ذوق الأشياء) وغير المباشر (ذوق رموزها) هو المحدد للغايات.
وذوق الأشياء المحدد للغايات بمستوييها المباشر (الغذاء والجنس) وغير المباشر (رموزهما توقعا وتذكرا) هو الدافع لأي عمل مادي أو رمزي عقلي أو غريزي ومن ثم فهذه الدوافع هي التي “تصنع” الادوات العلمية المباشرة (المعرفة والفن العفويين) وغير المباشرة (المعرفة والفن المستندين إلى نظريات).
لكن الدافع العفوي يبقى أكثر دفعا من الدافع النظري رغم أن ثمرة الدفع الثاني أكبر وأقوى من ثمرة الدفع الاول. والدين عادة من الدفع الأول لاعتماده على اليقين الإيماني وليس من الدفع الثاني المعتمد على الترجيح العلمي. لكن الإسلام يجمع بينهما دائما لأن يقين الإيمان يتمم ترجيع العلم.
والعلاقة بين الدافعين مناظرة للعلاقة بين الأداتين: فلا بد من نوعي المعرفة بمستوييها: العلم والفن كلاهما يكون مجرد خبرة بلا نظرية او نظرية بلا خبرة وكلاهما حينها يكون ناقصا نقص الدفع العفوي من دون الدفع النظري والدفع النظري من دون الدفع العفوي. كلاهما ضروري في العمل دفعا وتحقيقا.
لا يوجد عمل يخلو من الدفعين والمعرفتين. ويمكن التمييز بين الدفع الديني والمعرفة العلمية بمجرد المقارنة بين المضارب في عمله لنفع عاجل وذاتي والمؤمن به لنفع آجل وعام. وذلك في السياسة خاصة: فكل سياسي يكون مضاربا إذا كان دافعه عاجلا وذاتيا وليس آجلا لصالح الجماعة.
وفي حالة هذا النوع من المضاربين السياسيين لا حاجة لاستراتيجية غير تحين الفرص ولو بالغدر والخيانة بخلاف كبار الرجالات فإنهم يعملون على علم وإيمان برسالة منطلقها المرجعية الروحية للجماعة والعقل الفلسفي بعيد النظر لتكون استراتيجية أفعاله ذات انظام يعد للغايات أدواتها وشروط إنجازها.
المضارب في السياسة مثل المرتزق في الحرب يريد الربح ويخشى الخسارة. فالثاني يريد حربا بلا فروسية أي يقتل غدرا لئلا يموت والاول يريد ربحا ذاتيا دون اخلاص لمن يعبر عن إرادتهم وهو مستعد للتضحية بهم حتى يكون الرابح ولو بالخيانة المطلقة فيكون عميلا لعدوهم.
وفي هذه الحالة لا يتحقق الإخلاص التام إلا عندما يكون المحارب غير مرتزق والسياسي غير مضارب. وهذا هو دور الإيمان الصادق لأن المحارب بفروسية يحارب بأخلاق الجهاد ممثلا لقدرة امة والسياسي بإخلاص بأخلاق الاجتهاد ممثلا إرادتها. وهذا هو دور الدين الحق في حياة البشر.
وهذا هو الهدف التربوي والمشروعي في كلامي على دور شباب الأمة في تحقيق شروط استئنافها لدورها في التاريخ الكوني: فالأمة دخلت التاريخ الكوني في نشأتها الأولى وطموحات شبابها ينبغي أن تكون في استئنافها على الأقل بمستوى ما حققه آباؤهم وأجدادهم في نشأتها الاولى.
والجامع بين طموحات النشأة وطموحات الاستئناف هو فهومنا لفلسفة القرآن الدينية وفلسفته التاريخية تحديدا للغايات بواسطة إعادة قراءة فلسفة النظرية وفلسفته العملية تحديدا للأدوات. وذانك هما وجها القرآن. فهذان يتعلقان بأدوات استعمار الإنسان في الأرض وذانك يتعلقان بقيم الاستخلاف.
آمل أن يصبر الشباب على متابعة هذه المحاولات لأني اعترف بأنها شديدة التعقيد الذي قد يظنه الكثير من عندي بسبب قصور في العبارة أو غموض في الإشارة وليس لأن الأمر بطبعه شديد التعقد وخاصة لأن الغفلة عن هذا التعقيد هي التي جعلت الأمة تنحط بسبب سطحية الرؤية علة العجزين العلمي والعملي.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock