تدوينات تونسية

من طرائف حياتي الدينية ! (3)

بشير العبيدي
#بسمة_اليوم …
لقد عشتُ مواقف إنسانيّة غاية في الطّرافة والغرابة، بيد أنّني أذكر مُلحاً منها غلبت ما دونها لشدّة اتصالها بنمط التفكير! وهذه دُفعة جديدة منها على الحساب:
درسٌ… في تونس لن أنساه !
صدر قانون ظالم في عهد الطاغية الهارب -بن علي- سُمّي بقانون المساجد، وذلك بُعيْد الانقلاب على وليّ نعمته بورقيبة، بسنة واحدة (1988)، وكان هدف ذاك القانون منع جميع الدروس والأنشطة في المساجد كلّها، وتحويل المساجد من معاهد إلى معابد، مما أحدث حالة من السّخط العام، لا سيما بعد منشور سيّئ الذِّكْر صدر قبل ذلك يمنع النساء من ارتداء الخمار. فقام روّاد عدد من المساجد التونسيّة بالاحتجاج عن طريق تحدي القانون وإقامة دروس دينيّة عامّة رغم المنع والغرامة الماليّة والسّجن. وفِي تلك الفترة، كنتُ قد أنهيتُ قبل سنة عقوبة تجنيد قسريّ مع الأشغال لمدة سنة وشهرين مع الطلبة المجنّدين، وذلك في الصحراء التونسية الجزائرية، لأنهم مسكوني في تظاهرة طلابية! ومع علم أصدقائي بذلك، لا أدري لأيّ سبب وقع اختياري لإلقاء درس تمرّداً على القانون في المسجد الكبير لمدينة منزل (بورقيبة) ! ولقد جاءني من يعلمني أنه حان دوري لإلقاء درس علنيّ بين المغرب والعشاء في معرض التحدّي للسلطة الحاكمة ! ولأنّني -مثلما كانت تقول عني أُمِّي أنّني (نيّة في ثنيّة !)، قبلتُ الأمر دون أدنى تردّد، رغم وعيي التام أن الكلفة قد تكون خمس سنوات من السجن ! وقلت: لعلّ الإخوة في المسجد الكبير قدّروا أنني كنت أكثر الموجودين قدرة -أو غباء- لا أدري. فاتفقنا على وقت الإلقاء في الْيَوْم نفسه، وأخذت المصحف الشريف واخترت أن أشرح في درسي الممنوع آيات من سورة آل عمران، وهي التي تبدأ بقوله تعالى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ! وكانت سيارات الشرطة ترابط أمام المسجد وتتحين من يخالف، فرتّب لي الذين أوعزوا لي بإلقاء الدّرس هروبا بطريقة عجيبة! إذ ما كدت أنهي درسي مع أذان العشاء حتّى أخرجوني من شباّك المسجد حافيا، ومرّروني من منزل لجار المسجد، حيث كان رجل على دراجة نارية في انتظاري، وهُرِّبت خارج المدينة عند أهلي في ظلام الليل البهيم، وأنا أرتعد خوفاً على أُمِّي من أن يهاجموها مجدّدا، فقد هاجموها قبل ذلك وعبثوا بمحتويات منزلنا وأرهبوا جدّتي دوجة رحمها الله التي فقدت الوعي وكادت تصاب بسكتة قلبية. ثمّ علمتُ بعد ذلك أن رئيس الشرطة في تلك المدينة أقسم -لما تيقّن من أنّني صاحب الدرس- أن يقبض عليّ ولو هربتُ إلى القمر ! ل ذبتُ بعدها في تونس العاصمة أتخفّى أشهرا وكنت أمشي في الشوارع وعلى عينيّ نظارات شمسية وكلّما استوقفني أحد يسألني عن مكان قلت: الآن يُقبض عليّ ! ولقد مكثت عاما أو أكثر لا أرتاح ليلا ولا نهارا لأجل ذلك الدرس، حتّى أنني لما عدتُ بعد الثورة التونسية المجيدة لم أرتح أن أصلي في ذلك المسجد الذي ألقيت فيه ذاك الدرس اليتيم ! ومن عجائب الزّمان أنّ الساسة الذين كانوا حريصين أن نواجه قانون المساجد هم الْيَوْمَ يشاركون في حكم تونس، وميّزوا بين العمل في المساجد والعمل السياسي، وهذا درس في تبدّل الزّمان وأحكامه، وربّ درسٍ كان درساً!
… ودرسٌ في فرنسا… لن أنساه !
وفِي فرنسا، دارت الأيام وكتب الله أن ألقي درساً في مسجد يرتاده المسلمون الأتراك وبعض العرب، في مدينة فوندوم، وكان ذلك بمناسبة ذكرى المولد النبويّ الشريف. فألقيتُ درسي المختصر عن الشمائل المحمّدية، وطلبتُ من الحضور أن يتفضلوا بالتفاعل والتعليق ! فاستغرب النّاس صنيعي بشدّة، أي : كيف أتيح لهم فرصة الكلام، وقالوا لي: إنّه لم يسبق لهم أن طلب منهم خطيب في مسجدٍ رأيهم في درسه أبدًا ! بل كان عليهم أن يسمعوا ويؤمّنوا على الدعاء فقط ! وقال أحدهم: نحن ناتي هنا لأنّنا فارغين ! فقلت: لا يحقّرنّ أحدكم نفسه ! وألححتُ كثيراً أن يشاركوا بما أمكنهم طمعاً في تغيير نمط الدّروس ذات الاتجاه الواحد. فطفق الأتراك ينظرون جهة العرب، والعرب يتأمّلون الأتراك، ولم ينطق منهم أحد ببنت شفة ! فقلت لصديق لي تركيّ، أمازحه، واسمه هارون: هارون تكلّم أنت ! وأنا أعلم أنّه -في اللغة- أفرغُ من فؤاد أمّ موسى ! فضحك هارون وقال بالتركية (حزرتي بيغانمرين تشوك تشوك غوزال) ! فشكرته وأثنيتُ على ما قاله للتشجيع، وقلتُ له: ترجمْ ما قلت بالفرنسيّة لإخوانك العرب ! فاحمرّ وجهه على شقرته، والتفت يمنةً ويسرةً وقال (! pas français moi) وهي شبه جملة ركيكة مدموغة يعني بها: أنّه لا يحسن الفرنسيّة. فقلتُ له: حاول سأساعدك ! فتردّد برهة وأخرجها مضغوطة بقوله (! notre prophète est un mec bien) وأشار بإبهامه وطرّم شفتيه وطأطأ رأسه، لإشارة الاستحسان ! فانفجر الحاضرون بالضّحك حتّى تمرّغ بعضهم ! وإنّما معنى هذه الجملة العاميّة الفرنسيّة كقول القائل عند العرب (رسولنا زلمة جيّد !) فانزعج هارون من السّاخرين وقال محتجّا (! Eh!! Normalement pas français pas anglais ! Ataturc salaud! Normalement direct turc arpca) وهذه الجملة أشنع من أختها في تركيبها المضحك، ولكن قال فيها حكمة كانت أهمّ عندي من درسي الذي قدّمته لهم أنا! لقد عنى هارون بجملته البسيطة أن يقول: (ما كان يجب أن يكون بين العرب والترك ترجمة، إنّما ذلك بسبب أتاتورك الحقير الذي غيّر اللغة التركية وقطع أوصال العرب والترك، وكان لا بدّ أن يفهم التركيّ العربيّ وأن يفهم العربيّ التركيّ)!! فكان هذا الدّرسُ من عند صديقي هارون ممّا لا أنساه أبدا، وكلّما زرتُ الْيَوْمَ تركيّة وعجزتُ أن أعبّر لتركيّ أو أن أُفهم تركيّا، تذكّرتُ كلمات صديقي هارون… “ما كان يَجِبُ أن يكون بين التركيّ والعربيّ ترجمة !”… وهارون هذا يعيش في فرنسا منذ ثلاثين سنة، وهو الذي قال لي يوماً، حين سألته إن كان يجيد الفرنسية، إنّه حرص أن يتعلّم من الفرنسيّة جملة وحيدة هي (! donnes-moi mon salaire) أي: أعطني أجرتي! والترك نادرا ما يسترخصون لغتهم ويغلّبون عليها لغة أوروبية، فهو عيب عندهم كبير.
وهكذا، ذهبتُ ألقي درساً فتلقّيتُ درساً لن أنساه، وليت جميع من يلقي الدّروس في المساجد يصغون إلى البسطاء، فسيسمعون منهم الدّروس التي لا تدرّس في الجامعات ! ولله ما يأتي ولله ما فات !
– يتبع –
✍? #بشير_العبيدي | صفر 1439 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أَمَلاً |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock