تدوينات تونسية

نداء تونس: استعادة هيبة الدولة أم تجذير خيبتها ؟

عادل بن عبد الله

حفريات في التوافق: (2)

في فترة حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة  شهدت تونس إضعافا/ استضعافا ممنهجا للدولة ولجميع أجهزتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهو واقع كان المستفيد الأكبر منه هو ثالوث التهريب-التهرب الجبائي-الإرهاب. واجهت الترويكا تحديات كبيرة  وكان عليها أن تتعامل معها بحذر شديد حتى لا تُتهم بالاستبداد أو بالتنكر لاستحقاقات الثورة. كانت تلك التحديات تبدأ من البناء والانتصاب الفوضويين مرورا بالتجارة الموازية لتصل إلى الإرهاب التكفيري الذي أصبح بمثابة عقب أخيل. كان ضعف الترويكا بنيويا وكانت أحزابها الثلاثة تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية السياسية والأخلاقية عن الفوضى/العطالة المعمّمة التي طبعت الواقع التونسي في مختلف الأصعدة نتيجة غياب الجرأة والمخاطرة في التعامل مع الملفات الكبرى. ولكنّ الباحث المنصف يعلم أنّ ضعف الترويكا لم يكن ضعفا ذاتيا “فقط”، بقدر ما كان أيضا نتيجة سياسات انقلابية ممنهجة عملت على إضعاف أول تجربة ديمقراطية معبّرة عن إرادة الناخبين وإفقادها أي تعاطف شعبي.

كان على أحزاب ما سُمّي بـ”العائلة الديمقراطية” أن تعيد تشكيل الوعي الجمعي عبر التلاعب الإعلامي والضغط النقابي والانفلات الأمني، وكان عليها أيضا أن تتلاعب بالذاكرة الوطنية وبالحقيقة التاريخية حتى تظهر فترة حكم الترويكا بمثابة الشر المطلق الذي أخرج التونسيين من جنة “البورقيبية” رغم انحرافاتها النوفمبرية المتأخرة زمن الرئيس المخلوع. ولذلك سعت “العائلة الديمقراطية” بقيادة نداء تونس-الوريث الأبرز للتجمع المنحل الذي كان يحكم قبل الثورة- إلى ضرب تجربة الترويكا وإفشالها. وكان ذلك كله يحتاج إلى سردية بديلة تحلّ محل السردية الثورية والشرعية الانتخابية، ولم يكن أمامهم-لأسباب موضوعية كثيرة- أفضل من البورقيبية بلحظتيها الدستورية والتجمعية ولا أفضل من السيد الباجي قائد السبسي لـ”تقمّص” هذا الدور. ولكن إلى أي حد يمكن للبورقيبية ولممثلها الأبرز الباجي قائد السبسي أن تساهم في تجاوز الحقل السياسي الاستبدادي وبناء “توافق” وطني لا يقوم على أجساد الإسلاميين وأرواحهم من جهة أولى، ولا على التنكر لاستحقاقات الثورة وإرادة الناخبين من جهة ثانية؟

عن أية “بورقيبية” وعن أية “هيبة” نتحدث؟

بصرف النظر عن مواقفنا من الفلسفة السياسية البورقيبية ومن محصولها الواقعي أو “المؤسطر” والموهوم، وبصرف النظر عن طبيعة العلاقة الامتدادية-الاشتقاقية أو التحريفية-الارتكاسية التي ربطت بين اللحظة البورقيبية-الدستورية واللحظة التجمعية–النوفمبرية، فإننا لا نستطيع أن نقول إن من ميزاتها البحث عن “التوافق” سواء مع القوى العلمانية –خاصة اليسار- أو مع القوى الإسلامية-خاصة حركة النهضة-. لقد اصطبغت ببعض السمات التي لا يمكن المجادلة بانتمائها إلى الثقافة الديمقراطية والتي يمكننا اعتبار “عبادة الزعيم” أفقها ومنتهاها.

قامت البورقيبية المؤسسة للدولة-الأمّة – بما هي جزء من الفلسفة السياسية الأتاتوركية التي تتعرف ذاتيا بالتقابل مع الإسلام التقليدي ثم مع الحركات الإسلامية فيما بعد- على الجمع بين ثالوث الزعيم-الحزب-الدولة، ذلك الجمع الذي كان مظهرا من مظاهر عمل الاستعارة الرعوية في منظومة سياسية “تزعم” تأسيس شرعيتها على تجاوز تلك الاستعارة التراثية لبناء ثقافة “المواطنة” الحداثية. فكيف يمكن للسيد باجي قائد السبسي هذا الشيخ الثمانيني الذي هو نتاج البورقيبية ووريثها في مرحلتها “المريضة” -بالمعنيين الصحي والمؤسساتي- أن يتعامل مع ثورة كان أحد شعاراتها الرئيسة” يسقط حزب الدستور.. يسقط جلاد الشعب”؟

لو أردنا اختزال أهم سمات “البورقيبية” و”الهيبة” في المجال التداولي الندائي الساعي إلى أن يكون مرجعا جماعيا للمعنى داخل الحقل السياسي كله لقلنا إنها تتمثل في النقاط التالية:

– لا وجود لتوافق بين البورقيبية عند السيد قائد السبسي وبين الأزمة العضوية التي يحاول/يزعم القدرة على السيطرة عليها والتي كانت هي أساسا أهم استحقاقات ثورة 17 ديسمبر 2010.

فالبورقيبية لا يمكن أن تكون مرجعا لبناء ديمقراطية أو تنمية جهوية متكافئة، ولا أن تكون مساعدا على تكريس ثقافة التداول السلمي على السلطة وفصل السلطات عن هيمنة الزعيم أو الفصل بين “الحزب” وأجهزة الدولة.

– البورقيبية التي يمثلها السيد قائد السبسي هي البورقيبيةالمريضة أو البورقيبية الضعيفة، لا البورقيبية القوية والمؤسسة للدولة الوطنية . ولا شك أنّ الندائيين يحاجّون بضرورة العودة إلى البورقيبية الأولى (القوية والمؤسّسة) لكنهم سيجدون أنفسهم في حرج واقعي وهو أنّ رمز البورقيبية عندهم وممثلها -أي الباجي قائد السبسي- لن يكون- بحكم سنه وتدهور قدراته الصحية والذهنية- إلاّ ممثّلا للبورقيبية الضعيفة (المريضة) وسيكون سببا في المس بـ”هيبة الدجولة” مهما كانت طبيعة أدائه، كما سيكون معبرا لصراعات الأجنحة واللوبيات الحزبية والعائلية والجهوية التي عانت تونس منها في أواخر فترة حكم الزعيم بورقيبة رحمه الله.

– إنّ التكرار النسقي لحجة “استعادة هيبة الدولة” من لدن السيد قائد السبسي وجميع الندائيين لا يُفهم إلا بافتراض ضياع تلك الهيبة في فترة ما من تاريخ تونس. وإذا ما بحثنا عن تلك المرحلة فإننا سنجدها محصورة –عند الندائيين وأغلب مكونات “العائلة الديمقراطية” –في فترة حكم الترويكا. وهو ما يعني أنّ الهيبة المطلوبة تتموضع في سياق سابق إما أن يكون عهد بورقيبة وإما أن يكون عهد المخلوع الذي انقلب عليه لحماية “النظام” من خطر “الإسلاميين” لا لتغييره في مستوى اختياراته الاقتصادية والثقافية أو في مستوى بنيته الجهوية-الزبونية.

– لو افترضنا أن الباجي هو سليل البورقيبية فإن الهيبة التي يريد استعادتها هي هيبة بورقيبة في فترة التأسيس لا في فترة الضعف والشيخوخة. وبصرف النظر عن معنى الهيبة في عهد التأسيس (وهي تعني أساسا هيبة “الزعيم” وإرادته لا هيبة القانون والمؤسسات التي ترتبط بثلاثة محاور سيادية هي الأرض والشعب والحكومة)، فإن السيد باجي قائد السبسي بحكم سنّه سيكون أعجز من أن يعيد مرحلة التأسيس ولن يستبقي منها إلا هيبة “الزعيم/الأب” الذي غرس الخوف من الدولة ومن الحزب والزعيم لا من القانون. فالسيد قائد السبسي بحكم هذه المحدودية الأصلية ذاتيا وموضوعيا لن يكون إلا “الكومبرادور الأول” في منظومة المصالح الدستورية –التجمعية  وشبكاتها الجهوية-الزبونية، ولن يكون أبدا “المواطن الأول” الذي هو الضامن الأول لمرجعية الدستور وسلطته التحكيمية.

في أفق التوافق من منظور “بورقيبي نيو-ليبرالي”

لفهم معنى التوافق عند مؤسس نداء تونس ورئيس الجمهورية الحالي السيد باجي قائد السبسي، يمكننا أن ننطلق من السؤال التالي الذي قد يبدو سؤالا عبثيا: هل حكومة “الوحدة الوطنية” توسيع لدائرة التوافق أم ارتداد عليه حتى في أدنى مستوياته الوظيفية؟

في المستوى الشكلي، تبدو حكومة الوحدة الوطنية لحظة سياسية جديدة وسّعت من دائرة التوافق بين الحزبين الكبيرين (نداء تونس والنهضة) لتشمل أحزابا أخرى ومنظمات وطنية كبرى وازنة من مثل الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف وغيرهم من الموقعين على ما يُسمّى بوثيقة قرطاج. ولكنّ البحث في المستفيدين من عملية “التوسعة” سيجعلنا نغير من هذا الرأي. فالذين دخلوا إلى الحكومة بدءا من رئيسها ذاتها يعبّرون عن بنية تسلطية سابقة لمرحلة التوافق أو منذرة بالانقلاب الاستراتيجي عليها. وهو واقع يمكننا الاستدلال عليه بالنقاط التالية:

– من الناحية الجهوية، يمكننا اعتبار تولية السيد يوسف الشاهد مظهرا من مظاهر تغوّل مؤسسة الرئاسة على شريكها  في الحكم من جهة أولى، وتفردا بسلطة القرار واستضعافا للكتلة البرلمانية الندائية ذاتها من جهة ثانية. ولا يمكن لأحد أن يزعم أن اختيار السيد يوسف الشاهد كان نتيجة اختيار حزبي أو توافق وطني، بل هو مجرد اختيار عائلي يشير إلى تكريس البنية التسلطية التقليدية المتكوّنة من “البلدية” و”السواحلية” أساسا. فمنذ الاستقلال الصوري عن فرنسا لم يتولّ رئاسة الحكومة إلا شخص واحد من خارج الدائرة البلدية-الساحلية- هو السيد علي العريّض-، كما لم يتولّ رئاسة الدولة إلا شخصية سياسية واحدة من خارج البنية السلطوية التقليدية ألا وهو السيد منصف المرزوقي.

– من الناحية، السياسية، تعكس التركيبة الحالية للحكومة أفق التوافق الحقيقي الذي يحكم المنطق السياسي للسيد قائد السبسي. فتوسيع دائرة التوافق لم ينفتح على حلفاء النهضة أو الأحزاب غير المعادية للإسلاميين على أساس إيديولوجي، بل انحصرت “التوّسعة”  في بعض مكونات “جبهة الانقاذ” و”الجبهة الرئاسية” التي كانت تدعو إلى انتخاب السيد قائد السبسي-بل حتى إلى انتخاب ممثلي نداء تونس في التشريعيات-حتى لا تتشتت أصوات “الديمقراطيين” وتستفيد حركة النهضة من ذلك.

– من الناحية الاقتصادية، لا يدفع كلفة التوافق إلا الفئات الوسطى والدنيا من المجتمع، ولا يستفيد منه إلا رموز الفساد في المنظومة الدستورية-التجمعية ومن والاهم في الشبكات الزبونية-الجهوية، ولا يعكس التوافق –أو الوحدة الوطنية- أي تغيير حقيقي في الاختيارات اللاوطنية الكبرى لدولة ما بعد الاستعمار المباشر بقدر ما يعكس بحثا عن آليات وتحالفات وترضيات و”رشاوى سياسية” تسمح بتأبيد بنية التخلف والتبعية تحت شعار الدفاع عن “النمط المجتمعي التونسي”.

– من الناحية الإيديولوجية، لا يمكننا أن نقول بأن التوافق عكس مراجعات فكرية داخل العائلة الدستورية التجمعية أو عند الزعيم المؤسس الباجي قائد السبسي. فمن يتتبع تصريحات رئيس الجمهورية وقياديي نداء تونس يلاحظ ثباتا لنبرة العداء تجاه حركة النهضة التي مازالت عند أغلبهم تهدد “النمط المجتمعي” ولم تتونس بما فيه الكفاية. إنه عداء راسخ يتراوح بين الاعتراف بالطبيعة المؤقتة والبراغماتية للتحالف مع النهضويين، وبين السعي الصريح أو الخفي لاستبعادهم من مراكز القرار وحصر دورها في مستوى “صمام الأمان” أو ممتص الصدمات “المؤقت” الذي سيقع الاستغناء عنه إذا ما سنحت الفرصة للتوجه إلى الأطراف المشهورة تاريخيا بتأدية دور الحراسة الإيديولوجية للنظام -أي التوجه إلى اليسار الثقافي سواء أكان حزبيا أو نقابيا-.

إنّ التوافق الحقيقي الذي يفهمه السيد قائد السبسي هو ذاك الذي يكون خاضعا لإرادة الزعيم/الأب وخادما لتضامناته العائلية ومصالحه الجهوية وخياراته الثقافية. كما أنه توافق وظيفي غايته الأساسية العودة تدريجيا إلى مربّع 13 جانفي 2011 و”تبييض” جميع رموز الفساد انطلاقا من مشروع المصالحة الاقتصادية من جهة أولى، وضرب مسار العدالة الانتقالية وتعطيل هيئة الحقيقة والكرامة من جهة ثانية. بل إن ما يخيف في فلسفة “التوافق” –ومن بعدها “الوحدة الوطنية”- هي أنها قد أصبحت مدخلا لعبادة الزعيم وتغول قصر قرطاج مرة أخرى، ومدخلا لضرب ما تبقى من استحقاقات الثورة، بل لضرب الحد الأدنى من تلك الاستحقاقات والمتمثل في الحريات والحقوق الأساسية للمواطنين بدعوى مقاومة الإرهاب وتكريس الوحدة الوطنية. إنها كلمات حق ولكنها في مستوى التوظيف السياسي داخل حقل تحكمه الميكيافلية تصبح ذات كلفة عالية حتى على الشريك الأساسي في المستوى”الصوري” الأمس، أي على حركة النهضة. وهو ما سنسعى إلى تفصيله في الجزء الثالث من هذا المقال إن شاء الله.

سلسلة : حفريات في التوافق: (1) حفريات في التوافق: (2) حفريات في التوافق: (3) حفريات في التوافق: (4)

“عربى21”

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock