الأربعاء 25 يونيو 2025

سؤال الميراث : ثقافة أم إيديولوجيا ؟…

بلغيث عون
لم أسمع ما قال السبسي ولا أرى من داع فكري ولا من مطلب اجتماعي لطرح مسألة الميراث، كل ما أتصوره مع كثر أنها السياسة “شغالة” في كل مرة وأن الملفات الحقيقية السياسية والإجتماعية والتربوية تكتم أنفاسها بهكذا قضايا مغمورة. مع ذلك لدي قولان بشأن الميراث: قول في عمق المسألة ليس هاهنا موضعه وقول في محيط المسألة وكيف نطرحها لدينا في تونس.
والسؤال: من يحسم أمر الميراث في تونس، الثقافة أم الرؤية والإيديولوجيا؟
الثقافة بأحد تعريفاتها التي تعنينا هنا هي ما غلب من عادات تفكيرية وطباع روحية وأنماط سلوك. الثقافة لا تتحكم بها مفاهيم الصحة والخطإ، التقدم والتخلف، الخير والشر. على العكس من ذلك رؤية العالم، الإيديولوجيا فهي فردية أكثر منها جماعية حتى لو اتسعت؛ محكومة بالحسم بين الصحيح والخطإ وبين الحق والباطل. ما الذي اختاره التونسيون من شكل حياة بعد الثورة، العيش بحسب رؤانا للعالم وإيديولوجياتنا أم بحسب الثقافة والعرف العام؟
يجب أن نكون واضحين في الإجابة: في التجربة الديمقراطية الجديدة في تونس اخترنا واعين بذلك أو غير واعين العيش بحسب الثقافة لا بحسب الرؤية والإيديولوجيا. والسبب في ذلك واضح، كون الثقافة هي أوسع مشترك ممكن يضمن استقرار الحياة السياسية والنظام الإجتماعي وأخيرا استقرار النفوس. باختيارنا الثقافة تنازل الجميع عن رؤاهم وإيديولوجياتهم التي لا واحدة منها (لا الإسلام كرؤية ولا الماركسية كرؤية ولا القومية كرؤية ولا الليبرالية كرؤية) قابلة لتكون قاعدة عيش مشترك بل مصدر نزاع لا ينتهي. لذلك الإسلام الذي في الدستور بكل لواحقه هو ثقافة الشعب وليس رؤية الإسلاميين وإلا تنازعنا حوله تماما كما أن ما سوى الإسلام من أشكال وعي ثم السلوكات العامة مثل الخمر واللباس بأشكاله والفنون المختلفة، كل ذلك ثقافة الشعب وليس رؤية أي جهة معلمنة وإلا تنازعنا حولها.
اختيار العيش بحسب الثقافة لا بحسب أي إيديولوجيا كانت استدعى من الجميع التنازل لفائدة سلطة الثقافة، فيسمع الإسلاميون رغم أنوفهم ما يكرهون في الإعلام وفي الشارع ويرون ما يكرهون مما ليس من رؤيتهم للإسلام والحياة، ببساطة لأن تلك هي الثقافة. بالمقابل يسمع العلمانيون ما يكرهون ويرون ما يكرهون من مظاهر التدين بدءا بالآذان حتى رمضان والأعياد.. رغم أنوفهم، ببساطة أيضا لأن تلك هي الثقافة، وذلك هو معنى أن نعيش بحسب الثقافة.
المطالبة بالمساواة في الإرث ليس مشكلا بالمرة بالنسبة لي شريطة أن نفهم علاقته بنمط العيش الذي اخترناه بالإجماع وأن نجيب عن السؤال التالي: هل سنواصل العيش بحسب المشترك الثقافي أم سنلغي هذا الإختيار ونعيش بحسب المختلف الإيديولوجي وبحسب تأويلاتنا ورؤانا للحياة؟
إذا كنا سنواصل الخيار نفسه فلا معنى لطرح المساواة في الميراث ولنحافظ على استقرار الحياة السياسية والإجتماعية بحسب المشترك الثقافي الذي ليس صحيحا ولا خاطئا ولا تقدميا ولا رجعيا بل هو المهيمن وكفى.
أما إذا كنا سنغير قواعد اللعبة ونشتغل بحسب رؤانا وإيديولوجياتنا وما نراه صحيحا وخاطئا (وهذا خيار ممكن لا إشكال فيه عدا التساؤل ما إذا كنا مستعدين لدفع ثمنه أم لا أعني ثمن الإختلاف.. الخلاف)، فهاهنا لا يتوهمن أحد أن من يطالب بالمساواة في الميراث وحده صاحب مطالب؛ غيره أيضا مطالبهم كثيرة: أولا عدم المساواة نفسه مطلب ورأي وفهم للنص يتصوره هؤلاء الحق تماما كما يتصور الآخرون المساواة هي الحق؛ من سيحسم آنذاك أيهما الحق الذي سنتبع؟ بعد ذلك كل القضايا المشكلة المتعلقة بتطبيع الشريعة ستطرح كمطالب حتى الحدود لأنها برأي هؤلاء هي الحق وهي حرية ضمير اختارها المتدين طواعية واقتناعا فمن سيقف بوجهه أمام مطالبه؟
برأيي فإن الخيار الأسلم هو الذي دفعنا إليه جميعا دفعا بعد الثورة: العيش بحسب الثقافة المهيمنة والتنازل عن رؤانا وإيديولوجياتنا إلا في الحدود الدنيا تماما التي تتسع لها الثقافة.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

ديمقراطية مريضة قابلة للمداواة

بلغيث عون  نتائج الإنتخابات خليط عجيب من الإنتصارات والهزائم، ولا أرى ما يراه كثير من …

في ذكرى مجزرة الكيمياوي بالغوطة…

بلغيث عون  تذكرت أني أخشى الأفكار أكثر مما أخشى الوقائع تماما كما أسعد لميلاد فكرة …

اترك تعليق