نور الدين الغيلوفي
1. سؤال تافه تفاهة الذين يسألونه
سؤال إنكاريّ فيه مصادرة ترجمتُها “ليس في الإمكان أفضل ممّا هو كائن”. العجيب أنّه لا يُطرح في الدول المتقدّمة رغم ما هو كائن فيها من تقدّم بينما يُطرَح في دول متخلّفة تسير منذ أكثر من قرن في طريق النموّ ولم تصل بعد إليه. وما إنكار البديل إلّا دليلا على ضرورته، ذلك أنّ الجميع يعلمون أنّ أوضاع هذه الدول، مهما طالت، استثنائيّة طارئة مثل كلّ حالات الطوارئ لا بدّ من تغييرها. ما هو كائن في هذه الدول ليس أفضل بل لا فضل فيه، إلّا أن تكون القوّة هي دليل الفضل. وذلك شأن حكم التغلّب من قديم الزمان.. الأقوى هو الأفضل لأنّه الأقدر على بقاء.
منذ القرن التاسع عشر والنخب العربية تتحدّث عن البدائل بصيغة الجمع. ولم يأت حاكم واحد أقنع ببدائله. الدول العربية من أكثر دول العالم تخلّفا لأنّ عليها حكاما يرون في أنفسهم البدائل التي لا بدائل لها. وكلّما جلس حاكم على كرسيّ لم يتركه إلّا بعد استيفاء نصيبه من الحياة الدنيا.
2. من هو الدبيل؟
سؤال طرحه في مصر حسني مبارك حين كان يقول للدوائر الغربية إنّ أيّ تغيير سيأتي بالإخوان المسلمين إلى الحكم. وطرحه، في تونس، بن علي لمّا كان يقول إنّ “المتطرّفين”، وذلك وصف الإسلاميّين لديه، دون غيرهم هم بديله في صورة تغيّر الأوضاع. وطرحه الناشط السياسي محسن مرزوق الذي اكتشفه التونسيّون بعد هروب بن علي لمّا كان يحذّر الأمريكيين أيّام الثورة عليه من أنّ أي تغيير سيأتي بالتطرّف الإسلاميّ. وطرح مثله نوفل سعيّد شقيق رئيس الجمهورية لمّا كتب منذ أيّام مقالا طويلا ختمه بتحذير جاء فيه “أقول أنّه على المنظومة النيوليرالية العالمية أن تقبل التعايش مع الأنظمة الوطنية التي تخدم شعوبها… لأن غير ذلك لن تكون نتيجته إلاّ الفوضى… غير الخلاقة…” (هكذا).
المعلومات الأمنيّة التي لدى هؤلاء تقول إنّ الإسلاميين هم البديل إذا ما تُركت الشعوب لاختياراتها. ومن الحكّام العرب ومن أعوانهم من يتعلّل بالفوضى في حال سقوط النظام، والحال أنّ الأنظمة القائمة هي الفوضى عينها. لسان حالهم يقول “نحن أو الفوضى”. والعبارة تتضمّن تهديدا صريحا لا ضمنيّا.
3. الشعوب بطبيعتها تكره الفوضى لأنّ بها ميلا إلى السلامة وتعلّقا بالأمان. إذا هرب الحاكم أو انسحب تحت ضغط الشارع عرف الشعب كيف يدبّر أمره وحال دون الفوضى. الحالتان التونسيّة والمصريّة بيّنتا مدى النضج الذي بلغه الشعبان. الشعب التونسيّ لمّا هرب إليه الشعب الليبيّ من جحيم القذّافي عرف كيف يُجيره دون أن يسقط في الفوضى. تونس في زمان الثورة واسترخاء الدولة عرفت اجتماع شعبين الليبي والتونسيّ ولم تتحوّل الأوضاع بها إلى الفوضى. الدولة لا تحول دون الفوضى. تفتعلها وتستعملها ولا تمنعها. المجتمع ببُناه الموروثة محصّن ضدّ عموم الفوضى.
الشعب الذي يُترك لمصيره يعرف كيف يدبّر أمره. والفوضى إنما تنشأ حين يواجه الحاكم الشعب الأعزل بكلّ عنف الدولة يستعمله للمحافظة على نظامه. النظام في دول الاستبداد العربيّ ليس ضدّ الفوضى بل هو مجرّد حارس لكرسيّ الحاكم. وقد قالها زعيم الانقلاب في مصر عبد الفتّاح السيسي، قالها بالحرف “قسمًا بالله اللّي حيقرّب لها لأشيله من على وِش الأرض”. ولم يكن يعني بالضمير “لها”، عند وعيده، غير الكرسيّ الذي استولى عليه. ولمّا تحصّن بشار الأسد بكرسيّه بدأ بتعميم الفوضى في عموم سوريا. الدولة تستولي على كلّ القوة وتحتكر العنف، وهي وحدها التي تستعمل الفوضى كلّما كانت الفوضى في خدمتها. الفوضى خادمة للدولة في الحالتين: القوليّة للتخويف منها والعمليّة للترهيب بها.
4. إنّ الذين يحذّرون من الفوضى التي يرونها بديلا أوحد عن الأوضاع القائمة هم الذين جعلوا من كلّ الدولة جهازا يقمع الناس بدعوى فرض النظام العام. والحقيقة أنّ فرض النظام أمر تابع وليس أصيلا. الأمن ليس غاية في ذاته بل هو خادم للناس. هو أمنهم وليس سيفا مسلطا على رقابهم ولا سوطا على ظهورهم..
العساكر لمّا جاؤوا بانقلاباتهم لم يبنوا دولا تحترم نفسها، بالعكس من ذلك بنوا محتشدات حشروا الناس فيها ونكّلوا بهم تنكيلا. والحكّام الذين ورثوا المستعمرات لم يبنوا دولا بل جعلوا لهم حدائق لا قيمة فيها تفوق الكراسي التي يقعدون عليها.
5. الشعوب التي عرفت كيف تطيح بحكامها وعرفت بعدهم كيف تدبر أمرها “بلا دولة” وعرفت كيف تختار مسؤوليها وكيف تحتجّ عليهم وتعترض على أدائهم وكيف تعاقبهم إذا رُدّوا إليها، تلك الشعوب هي البدائل. الديمقراطيّة هي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه باختياره من يمثّله. الشعب وحده هو البديل. زمن الأنبياء قد مضى والزعماء لا معنى لهم. الحاكم لا يخرج عن لونين: لون متغلّب يسطو على السلطة ويستأثر بالحكم وهذا لا خير فيه ولو زعم أن السماء تدعمه. ولون يختاره الناس إلى أجل معلوم. وهذا يُستبدَل إن لم تأت منه إضافة.
6. أيّا يكن البديل سيكون أفضل من حاكم يعجز عن خدمة الناس فيلعن من عجزِه مخالفيه، يحجزهم في معتقلاته ولا يجد تفسيرا لعجزه إلا باتهامهم بالتآمر عليه وبتعطيله عن إنفاذ عبقريته في التاريخ. الحكم عنده لا يتعدّى شتائم للمخالفين ومنعهم من دفع الشتائم عن أنفسهم.
الاستبدال في جميع الأحوال أفضل من الاستبداد. ليس أسوأ من الاستبداد. وكلّ ما يأتي خلافه خير منه.
الاستبداد ليس خيارًا، والفوضى ليست قدَرًا.
والبدائل ممكنة.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.