كمال الشارني
على ذكر التلميذ الذي أرسلوه إلى السجن من بنزرت: نعم، أنا من الجماعة المتمعشة من حقوق الإنسان:

في أحد مساءات شهر مارس 1986 في السجن المدني بالكاف، جلب أعوان الحرس الوطني من احدى معتمديات ولاية جندوبة طفلا عمره 16 عاما: مهشم الوجه والفم وفي ساقيه دم متجمد من أثر الضرب بالفلقة، كان تلميذا هزيلا يلبس “شلاكة” أمه بلا معطف أو أي شيء يقيه برد الكاف القاتل، يجري من أنفه دم ومخاط (خنانة دموية)، كان يبدو تائها مثل جرو كلب بلا أهل، جلبوه إلى السجن بعد أربعة أيام من الإيقاف والتعذيب العشوائي إثر إيقاف عنيف في بيت عائلته ليلا بتهمة المشاركة في المظاهرات، كنت قد قضيت عدة أشهر في الإيقاف، واكتسبت خبرة في السجن، وأصبحت أحظى بثقة الحراس (أغلبهم من أهلي) حتى أني وقفت معهم في السنطرة أشاهد كيف رفض مدير السجن وقتها قبول ذلك الطفل البائس في السجن بحجة صغر سنه، كان يرتجف مثل عصفور مبتل، وكانوا “هم” أعوان الحرس في قمة عنفوانهم، الجبروت كان ينطق منهم، حيث لم يكن هناك أي مبرر للتشفي أو الفخر في إرسال طفل إلى السجن.
قال مدير السجن في واحدة من المواقف التي سوف تذكر بعده: “ليس لدي إصلاحية هنا، إنه سجن للقتلة، سيغتصبون هذا الطفل في أيام قليلة”، ثم أمر برفض قبول الطفل وإغلاق البوابة الكبرى لسجن الكاف المدني فيما كانت زوجته تطلق كل اللعنات من ساحة بيتها التابع للسجن بأعلى ما يمكن لصوت إمرأة كريمة أن يبلغه ضد النظام وضد الظلم.
علق أعوان الحرس الطفل من يده اليمنى في بوابة السجن المغلق ورحلوا عند الخامسة مساء في سيارتهم الضخمة، كان الظلام قد بدأ يحل، وأصبح البرد قاتلا حقا، كان الطفل على وشك الموت بردا.
عند الساعة السادسة، قامت زوجة مدير السجن بسرقة مفاتيح القيد من بيت زوجها، أطلقت سراح الطفل، أخذته إلى بيتها لينام مع أطفالها.
في اليوم الموالي غير وكيل الجمهورية بمحكمة الكاف رأيه وأمر بإحالة الطفل إلى قاضي الأطفال، لم يكن ذلك إجرام دولة، بقدر ما كان إجرام تونسيين ذوي سلطة في حق الطفولة والإنسانية والأمومة والوطن، كان عندي سؤال: كم يحتاج عون الدولة من بلادة الذهن والأخلاق والمشاعر لكي ينام هانئا مع أبنائه وهو يترك طفلا معذبا، معلقا من يده اليمنى في بوابة سجن في مدينة الكاف حيث يمكن أن يموت بردا خلال ساعتين أو ثلاث على الأكثر، الذين فعلوا ذلك تونسيون، كلهم من أبناء الريف والفقر والعجز عن الدروس الخصوصية المؤدية إلى المدارس الكبرى التي تصنع الحكام وإلى الدراسة بالخارج، من أمهات حملن الماء على ظهورهن من العين، الحطب من الجبل لتدفئة البيت، نسجن العبانة (غطاء من الصوف) والقشابية (معطف تقليدي) وهن يحلمن بإنجاب رجال تحولوا إلى خدمة الطاغية، الافتخار بتعليق طفل في السادسة عشر من العمر في بوابة السجن والانصراف؟ ثمة شيء فاسد في مملكة برّ تونس.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.