الأربعاء 30 أبريل 2025
نور الدين الغيلوفي
نور الدين الغيلوفي

أحمد صواب هل يكون القطرة التي تفيض الكأس ؟

نور الدين الغيلوفي

1. لا يزال الفرقاء، غير قليل منهم، لم يتعلّموا الدرس ولم يفهموا أنّ الدكتاتور جشع لا يشبع من التسلّط ولا يكتفي من الاتهامات ومن هتك الأعراض وهدم النسيج وانتهاب الأرزاق، ومن سفك الحريات.. وحتّى الدماء. ومتى كان الدكتاتور قادما من وراء خيوط العدم كان أشدّ جشعا. روحُه جوعٌ مستحكِمٌ إلى كلّ معنى، يحسب أنّ مراكمة السلطات وجمع القوات قد يجعلان له هويّة لم يفلح في جعلها لنفسه لمّا كان يتحرّك في الحياة بنفسه.

الوريمي الأمين العام لحركة النهضة
الوريمي الأمين العام لحركة النهضة

ربع قرن من الحكم لم يجعل لابن علي مقاما بين الذين يثني عليهم التاريخ. في زمن قوّته كان قد وضع يده على كلّ شيء وظهرت صورته في كلّ مكان، ولكنّه، يوم غادر الكرسيّ، غاب عن العيان وعن الأذهان، ولا تكاد تجد بين الأسوياء من يذكر له حسنة واحدة.
بورقيبة من قبله ظلّ، وهو رئيس، ينفق من رصيده قبل أن يتقلّد منصبه. وكان، كلّما زاد جلوسه على كرسيّ الحكم، استهلك من ذاك الرصيد. حتّى إذا توفّى أنفاسَه من حياةٍ لم يسر في جنازته إلّا قليلٌ بحكم الدولة التي كان رئيسها. لقد استنفد رصيده الذي ظلّ طوال حكمه ينفق منه.
الآن يستعاد وثنًا يلوذ به فقراء المعاني والمفرَغون من كلّ فضيلة.

2. القوّة لا تجعل لك مقاما بين الناس. بالعكس، الناس يكرهون القوّة العارية التي تهدّد شعورهم بالأمن. قد يخافونها، غير أنّ الخوف لا يصنع في النفوس تقديرا. الوطن ذاته يصبح بلا معنى متى كان أمره تحت يد تبطش بالناس لتصنع بالبطش هيبتها. ويصبح الهروب منه غاية الغايات. الظلم طاعون. والناس لا قِبَلَ لهم بتحمّل ما يأتي به الطاعون. والخوف لا يصنع للمَخوف منه مجدًا.

3. بعض خصوم الإسلام السياسي، بعدُ، لم يفهموا ذلك. لقد ضاقوا ذرعا بديمقراطية عجزوا أن يكون لهم ضمن مشهدها مكانٌ فانقلبوا عليها. قالوا ديمقراطية تأتي بالإخوانجيّة لا نريدها. مثل تلاميذ تآمروا على هدم مدرستهم لأنّهم لم ينجحوا في دراستهم. لقد نسي هؤلاء أنّ عجزهم وتقصيرهم وحدهما وارء هزائمهم، أو تناسوا، فصرفوا جهودهم إلى هدم بيت لم يقبلوا أن تشاركهم فيه حركة النهضة. وقال أكثر من قائل منهم “نتخلّص من النهضة وسيكون تبديل الذي يأتي بعدها علينا سهلا”. بهذا المنطق صنعوا بأيديهم دكتاتورا أرادوه ماعونا يستعملونه لتخليصهم من خصومهم، فلمّا استوى به قعودُه على كرسيّه أخذ في التخلّص منهم تباعا. لم يكفه خصومهم. ظلّ على جوعه الذي أخذه إليهم. لا يسلك إلى مخالفيه غير نهج واحد هو نهج نهشهم، ولا فرق بينهم، حتّى امتلأت السجون بالفرقاء من مختلِف الأطياف.
ليقيم “تاريخه” الذي يتوهّم أنّه يصنعه كان عليه أن يعدم كلّ الحياة ليكون هو نفسه أصل الحياة وبداية خلق جديد لم يكن من قبل. كان عليه أن يعدم كلّ شيء ليكون عنده البدء والتاريخ.

4. من حظّ هؤلاء الفرقاء أنّ هذا القادم الجديد عقيم. عقمه متأتّ من جهتين:
من جهة عجزه البنيويّ الذي يمنعه من أن ينجز شيئا يصلح دليلا عليه أو حجّة له أو موضوع حديث عنه.
ومن جهة رغبته المحمومة في أن يقتل كلّ من تظهر عليه مثلُ ملامح موسى يأتي به اليمّ، مخافة أن يغرقه بعد ذلك في البحر. لذلك فهو لا يختار من الموظَّفين لإنفاذ “مشروعه” غير كلّ أخرس عييّ كَلٍّ على مولاه لا يتحرّك إلّا بأمره. وأمره لا يحرّك ساكنا.

5. لو كان الفرقاء يفقهون لأدركوا أنّهم بالذي صنعوه ضدّ النهضة إنّما سملوا أعينهم وشلّوا حركتهم وهدموا الجدار الذي كانوا يستندون إليه وهم يلعنونه وبأحجارهم يرمونه. لقد ردّدها على مسامعهم دوما، كنتم تتظاهرون بالتعادي فما الذي أعاد بعضكم إلى بعض؟ يسمّي اجتماعهم تآمرا وهو الذي يدعوهم بأدائه وبخطابه إليه.
لمّا سيقت قيادات النهضة إلى السجن، الواحد تلو الآخر، لم يحرّك كثيرون من هؤلاء ساكنا. لم يخرجوا للتظاهر إلّا حين سيق بعض أبناء عصبيّتِهم إلى السجن نفسه. جدران السجن لا تفرّق بين نزيل ونزيل. وباب السجن يصرّ صريره حين ينغلق على أحمد صواب كما اعتاد أن يفعل مع علي العريّض. وظلمة السجن لا فرق لديها بين غازي الشواشي والعجمي الوريمي.

6. لا أظنّ أنّ دعوة هؤلاء إلى الاعتبار تجعلهم يعتبرون. بل لا أراهم يفهمون. خيارهم هم الذين اقتيدوا منهم إلى السجون. وليس أمامهم لتحرير هؤلاء الخيار إلّا أن يستعينوا بحركة النهضة التي أسلموا قياداتها، فرحين. دائرة الجَور دارت الآن عليهم ولم يعد لها من مانع من دورانها المتوحّش غير أن ينزلوا عن غرائزيتهم التي أعمتهم ليروا أن خصومهم ليسوا أعداء لهم. النهضة منافس لهم. والأصل أن تحفظ منافسك ليكون لطريقك معنى. طريق تسير فيه وحدك لا قيمة له ولا قيمة لك فيه. الحرية سيدة المعاني وأمّ القيم.. وليست تكون إلّا إذا أشرقت شمسها على الجميع.. المخالف قبل المُحالف.

7. كلمة أخيرة بشأن النمط المجتمعيّ الذي يخاف عليه هؤلاء من حركة النهضة. أنا والله، ولا أفهم هذا الخطاب. بل أراه خطابا سمجا من قوم عاجزين عن الإقناع.
دعك من الأسماء ومن المقارنات بين أصحابها. الأمر بسيط جدا. النهضة ما فازت بمختلف الاستحقاقات الانتخابية رغم كلّ الكيد الذي لقيته من خصومها، إلّا لأنّها شجرة أصيلة بنت تربتها. ورصيدها الانتخابيّ يثبت نسبتها إلى مجتمعها. الغرباء هم أولاء الذين يتكبّرون على الشعب الذي، كلّما لقي حريته، انتخب النهضة، فاتّهموه في وعيه.
النهضة يختارها المتديّنُ وغيرُ المتديّن. يختارها الذي يشرب الخمرة والذي يحرّمها. الناسك يختارها والمتهتّك يختارها. الثوريّ يختارها والمحافظ يختارها. أمّا هؤلاء فطائفة أصمّتها أصداء أصواتها. فما عادت تسمع صوتا أو تهتدي بعقل.
رواية النمط المجتمعيّ التي أنتجت عبارة “لا يشبهوننا” إنّما هي رواية جائرة روّجها نظام قامت عليه ثورة وردّدها من ورائه هؤلاء.

نظام دولة الاستقلال رأى نفسه وريث دولة الاحتلال الفرنسيّ. والاحتلال الفرنسيّ سليل حداثة الرجل الأبيض الأوربيّ الذي لا يرى غيره جديرا بالحياة فوق الأرض. والناس جميعا لا يخرجون عن صنفين:
صنف خادم له هو جزء من الطبيعة التي جاءت الحداثة الغربيّة للسيطرة عليها.
وصنف ثان وجب التخلّصُ منه لأنّه ليس أكثر من عقبة في الطريق وجب استئصالها.. وتلك العقبة هي حركة النهضة وأخواتها. لذلك يستهدفها عبيد الرجل الأبيض العنصريّ.
هل يعود هؤلاء المستعمَلون إلى العقل فيخرجون من أسر عقل أوروبّي عنصريّ أوهمهم بإمكان الانتساب إليه فتوهّموا؟
إذا أراد هؤلاء أن يسكنوا بيتا ديمقراطيّا، فلن يفتحوا بابه بمفتاح الاستئصال.
الاستئصال يغلق الأبواب ولا يفتح.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

نور الدين الغيلوفي

ويل لهذه البلاد من هذا الظلم

نور الدين الغيلوفي ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ …

نور الدين الغيلوفي

تعبنا، فأين مدُّك ؟ أَشلاؤنا أَسماؤنا. لا .. لا مَفَرُّ

نور الدين الغيلوفي يا خالقي في هذه الساعاتِ من عَدَمٍ تَجَلَّ! لعلَّ لي حُلُماً لأَعْبدَهُ …

اترك تعليق