نور الدين الغيلوفي
- إهداء إلى الشيخ الأستاذ راشد الغنّوشي –
1. تعلّمنا ألّا يكون أدبٌ إلّا حيث كان اللا دين. ورأينا معنى الحداثة مشروطا بقطع حبال السماء. فليس أدبًا إلّا ما شرد في تراب التيه ورعى في مراتع الأسباب. ذلك ما علّمونا إيّاه.
أمّا أنا فتلميذ للجاحظ والتوحيدي والمتنبّي وأبي نواس وعمر بن أبي ربيعة وبديع الزمان الهمذاني وابن المقفّع وابن قتيبة والأصفهاني والمبرّد وابن عبد ربّه وأبي تمّام وابن الرومي وأبي العلاء.. أقف غير بعيد عن نجيب محفوظ والسيّاب ونزار قبّاني وأحمد شوقي وعبد الرحمان منيف ويوسف إدريس…
كلّ أولئك أبناء اللغة العربيّة وإنّي لمن نسلهم.

2. في الطريق كانت التكبيرات تدنو، كلّما اقتربتُ من المسجد، منّي.. ترتّب مسامعي وتعدل مشيتي وقد أخذتني غزّة إليها فأنا مجذوبُها، قلبي عندها والخيال.. حتّى بلغت مسجدنا الجامع، لصلاة العيد.
من زمان بعيد فقَد العيد، عندي، كلّ معنى له يتجاوز كونَه يعود مثلما تعود وحدات الزمان تكوّن أعمارنا.. العيد يفقد معناه الاحتفاليّ كلّما كان في الأرض مظلوم واستمرّت مظالمُ. لا عيد إلّا إذا أربع العدلُ فقام من ربيعه العمران.
3. هذا الإسلام ينتفض على كلّ شيء.. على الدين ينتفض.. وحتّى على اسمه يتمرّد.. فهو إسلام للسماء واحتجاج في الأرض.. دين لا كالدّين.. يأبى أن يكون شأنا فرديًّا كما أراد العلم الحداثيُّ للدين.. حتّى الصلاة، عموده الأعلى، لا يكون لها معنى إلّا بأن يجتمع كلُّ المؤمنين عليها، فإن هم أقاموها فرادى ذبلت وفقدت حثيثَ صعودِها إلى منازل تقويمها في ملكوت السماوات.. ورأيت الله في الروح يذبل. يأبى الإسلام أن يكون فرديّا بين الفرد والربّ.
4. دخلتُ المسجد شاردا في أفكاري وقد غمرتني تكبيرات النازلين بالجامع قبلي:
لا إله إلّا الله،
الله أكبر
الله أكبر
الله أكبر،
سبحان الله،
والحمد لله،
ولا حول ولا قوّة إلّا بالله..
سنفونية لترتيب الإيمان في السمع يربّيه في الروح، وجدتها تُغرس فيّ.. أكتفي بسماعها أصواتا تتخلّلني من جموع جالسين تعلو أصواتُهم كما لو أنّها معاريج سماء.. كأنّ الجمع شرِب المفردَ، فالصوت من تركيبه واحدٌ.. موصول بالواحد الأحد.
5. جلست أنتظر، كما ينتظرون، قدومَ الإمام.. المنبر ينتظر من كثب يشتمل عليه صمتُه.. المحراب بعينين من نور ترسمان وقاره.
في الأثناء بدت لي صورة يحيى السنوار بين الجالسين…
إي والله.. هو هو.
فتى يلبس سترة سوداء في ظهرها صورة ليحيى.. أعرفه.. سيّد الطوفان، طوفان الأقصى،
ودليل القافلة، قافلة المقاومين،
وإمام الشهداء.
كان يفصلني صفٌّ عن الفتى.. انتظرت حتّى انتقل شخص كان يجلس وراءه فأسرعت إلى مجلسه.. لأتأمّل من الصورة صاحِبَها.
مساحة السترة سوداء مثل ليل.. في أثناء السواد هالة حمراء تكوّنها حروف لم أتبيّنها.. في السِّطة من الهالة وجهه.. ومن ذا الذي ينكر رسمه؟
رأس جلّلها المشيب فوق وجه فازت به الشهادة فكان من نصيبها.. غرقت في الصورة وأعرضت عن العنوان تحتها. السنوار لا يحتاج إلى وصف يصفه ولا إلى عنوان يدلّ عليه. هو الدليل المستدلّ.
بقيت أتأمّل ملامح الوجه المهيب…
حاجباه كفّتا ميزان تعدلان ما اختلّ من زمان الناس تركهم ليرقى في منازل السماء بعد أن أحسن البلاء وانتهى إلى الفوز بوسام الشهداء…
عيناه بعيدتان بعده عنّي أنا الغارق في الأوحال…
أنفه جمع ما بقي في أرض البشر من أنفة الأرجح أنّه غرسها في غزّة قبل أن يغادرها، لذلك تموت ولا تنثني.. صخرة هي يتكسّر العدوّ عليها ولا تنكسر…
فمه أخذ شكل قلبٍ اختزل كلّ ما في الأرض من نبض السماء.. فالنبض الذي بقي في الأرض لا يغادر صورته.
أخذني جلال الصورة في جمال الاسم.
6. ما أفقت إلّا والإمام يدعو بغزّة لها.. ورأيتها شرط الدعاء.
انفضّ الجمع. تبعت الفتى أمسكت بذراعه
– تعالَ أقبّلْك.
قلت له:
– عيدك مبارك.
أجابني مبتسمها.
قبّلت الفتىّ وغادرت تهدهدني مدامعي ترقبنا الطريق من صمتها.
7. الشهيد شقيق الأسير.
المستبدّ يمسك هذا فيسكته لينفرد المحتلّ بذاك فيقتله. الأمر غير منفصل. الغنّوشي شقيق السنوار. يغيبان من قتل ومن أسرٍ. ولكنّهما لا يغيبان.. تدعوهما الخواطر
والصور..
ويعودان مع كلّ عيد.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.