عبد اللطيف علوي
استمعت إلى مقاطع كثيرة عمّا حدث بين ترامب وزيلنسكي، وهذا الأخير رغم أنّي لا أحبّه لوقوفه إلى جانب إسرائيل، إلاّ أنّه في هذا الموقف بالذّات كان مذهلا حقّا! كان شجاعا ومذهلا!

لنتذكّر فقط جلسة ملك الأردن وصورة الفرعون المصري وهو يجلس إلى جانبه كالعذراء في خدرها، ويخفض عينيه حياء، ونقارن بين الصّورتين وستشعرون أنّه لا مجال للمقارنة! خاصّة إذا وضعنا في الاعتبار حاجته هو وحاجة بلاده المصيريّة إلى الرّضى والدّعم الأمريكي وبلاده تواجه حربا طاحنة تهدّد وجودها، في حين أنّه كان يفترض أنّ رؤساء العرب يذهبون إلى هناك بكامل زينتهم ونياشينهم وهم لديهم دول مستقرّة لا شيء يهدّد وجودها، وكراس تحميها الجيوش والبوليس ولا شيء يزعزعها!!
لقد كان واحدا في مواجهة اثنين على أرضهم، ومعهم إعلام رخيص مستفزّ يسأل عن البدلة عوض القتلى في الحروب، عملا على إهانته وتبكيته (منعه من الكلام) بالصّوت العالي والمقاطعة واستعراض الفضل والمزايا والتّقليل من شعبه ورجاله، لكنّهم لم ينجحوا في ذلك، ولم يكتف يديه ولم يلاصق ركبتيه وظلّ يلوّح بقبضته ويرفع سبّابته في وجه ترامب وذاك ما زاد من جنون الثور الهائج… واستطاع أن يُسمِع رأيه بوضوح ويمرّر بعض الجمل القصيرة ولكنّها قويّة وواثقة..
كثيرون يقولون ترامب “مرمده” وأهانه، والحقيقة أنّه لم يفعل سوى أنّه مرّغ صورة أمريكا في الوحل وأهان شعبها وكلّ ما تحاول أن تسوّقه للدنيا كزعيمة للعالم الحرّ!
الإهانة لا تحصل بمجرّد التّطاول على خصمك، وإنّما تحصل فقط عندما يقبل خصمك بالإهانة ولا يحاول أن يردّ الفعل!
أنا لا أقول هذا الكلام من منطلق الإعجاب بزيلنسكي، وإنّما فقط للمقارنة! بين من يعرف أنّ كرامته من كرامة شعبه فيحفظها ويحافظ عليها، وبين من لا يشعر على الإطلاق أنّه يمثّل شعبه!
إنّه من رحمة اللّه تعالى بهذا العالم أن يأتي بترامب ليضعه أمامنا كمرآة صافية تماما أو كشاشة عملاقة تعرض أوسخ مافي تلك “الحضارة” الغربيّة الزّائفة من عنجهيّة وجهالة وبذاءة وكذب ونفاق وتوحّش بدائيّ مقزّز. وتعرض أيضا وفي نفس الوقت، حقيقة من يستأسدون على شعوبهم ويتأرنبون أمامه.
الحالة التّرامباويّة
تصلح لأن تكون منجما لا ينفد للتّفكير والتّأمّل والقراءة والاستنتاج لو كان لدينا شعوب تقرأ وتتعلّم، أو نخب تفكّر وتستلهم…
من ذلك أنّ الديمقراطية لا تأتي بحكّام من الملائكة.
وقد لا تأتي أيضا بحكّام عقلاء أسوياء، وإنّما يحدث أن تأتي حتّى بالمجانين والحمقى والمجرمين البسيكوباتيّين والمرضى بكلّ أنواع العقد النفسيّة المدمّرة! ولكنّها عندما تكون مستقرّة وقويّة ومحميّة بقوانين ومؤسّسات دولة وسلطة قضائية مستقلة ومجتمع مدنيّ قويّ وفاعل ومؤثّر، تستطيع أن تمنع ذلك المجنون من أن ينتهك حقوق مواطنيه ويعتدي على حرماتهم وأرزاقهم، أو على الأقلّ تحدّ من ذلك إلى أقصى حدّ ممكن!
ترامب مصاب بجنون العظمة، متورّم الذّات إلى درجة لا يستطيع أن يتخيّل معها أنّه يوجد في هذا العالم من يستطيع أن يقول له “لا”! يتلذّذ وينتشي بإهانة الجميع أمام وسائل الإعلام ويستقوي على الضّعفاء من خصومه حتّى يسحقهم سحقا!
ترامب هو رئيس غربيّ بجينات حاكم عربيّ حقيقيّ ولكنّه وجد في بلد له مؤسّسات ديموقراطيّة راسخة وقوى مضادّة لتغوّل السّلطة وصحافة حرّة وتقاليد تمتدّ إلى مئات السّنين!
لو كان ترامب رئيسا عربيّا، يحكم في بيئة قابلة بالاستبداد ومشجّعة عليه، لكان بشّار إلى جانبه حملا وديعا، ولفعل أضعاف أضعاف ما فعله بشّار بشعبه وعلّق رؤوس معارضيه على الجسور وأعمدة الكهرباء وسلخ جلودهم وفرشها على الطّرقات كي يمسح فيها الجنود أحذيتهم…
لكنّه رغم غطرسته مع رؤساء العرب ومع دول الجيران وأروبا التّابعة وتنفيسه عن أمراضه وعقده مع ضيوفه الضّعفاء وتابعيه، لا يستطيع أن يتجاوز الخطوط الحمراء داخل بلده، لا يستطيع أن يأمر بالتّعذيب مثلا داخل شعبه أو بالاعتقال التعسفي لمعارضيه أو بتلفيق القضايا أو بتدمير القضاء أو البرلمان أو بما هو دون ذلك أو أكثر…
لا يستطيع حتّى ولو أراد، لأنّ الدّيموقراطيّة جعلت لتحمي نفسها من الحوادث الانتخابيّة القاتلة، عن طريق المؤسّسات، القويّة فعلا، المستقلّة الخاضعة فقط لسلطة القانون وليس لأهواء البشر.
ولذلك نقول دائما: في الأنظمة الديموقراطية الحقيقيّة لا يهمّ من تأتي به الانتخابات، قد يكون سيّئا وقد يكون جيّدا، ليس ذلك هو المهمّ، المهمّ دائما أن توجد مؤسّسات قويّة مستقلّة راسخة قادرة على أن تتصدّى له وتردعه إن زاغ أو انحرف.
وبرّا اكري شكون يفهمك!
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.