لزهر العكرمي
في مثل هذا اليوم؟؟!
السابع والعشرون من فيفري قبل عامين، جاؤوا بثلاث سيارات على ما اذكر، إلى غرف الإيقاف ببوشوشة لنقلي إلى المقر القضائي لمكافحة الإرهاب قرب المطار،
كنت قد قضيت خمسة عشر يوما في تلك الغرف التي لا تحتمل أكثر من ثمانية وأربعين ساعة قابلة للتجديد مرة واحدة، لأن النوم فيها على الأرض وبغطاء ازرق استعمله قبلك الآلاف من مجرمي الحق العام، وأنت تتغذى بنصف باقات صباحا ومثلها مساء وسط حشود من الشبان الأفارقة والتوانسة، الذين يغادرون بعد يومين كحد أقصى وتبقى أنت وحيدا عندما يخرج جماعة الحق العام لما يعرف بـ (الاريا) مكان الفسحة.

أنا خرجت عديد المرات مقيدا للبناء المحاذي لغرف الاحتفاظ لمقابلة الزملاء المحامين الذين هبوا للدفاع فجلبوا السجاير والسندويتشات، والمعنويات والأخبار والكرامة، كانوا من اليساريين الشرفاء والإسلاميين والتجمعيين المستقلين المهنيين، ومن شرفاء الهياكل المهنية، كنا نضحك ونتفاكه ونستهزئ بالقمع وان من مدونات مختلفة، وبعد نصف الساعة المسموح به مع الزملاء الأفاضل كانوا ينزلون بي إلى قبو تحت البناء يربطون معصمي الأيمن بالمونوت في أسفل رجل الكرسي اليمنى لمدة اربع ساعات يعيدونني بعدها إلى الغرف التي لا تبعد أكثر من مائتي متر عن القبو المذكور، احتججت وضحت وتكلمت عن المهانة التي وضعت فيها فقال لي عقيد بلهجة دافئة حانية “يا أستاذ نحنا نحترموك ونحبوك أما رآه فيك “بروتوكول خاص موش منا”، قلت في خاطري أنا الوزير الذي أشرف على إصلاح الأمن، وهاهم اليوم يعذبونني ببروتوكول تحت رقابة كاميرات تعد الحركات والأنفاس، رغم أن الغرف كانت كبيرة نسبيا حيث تصل الى خمسين متر مربعا إلا أن الاكتظاظ كان مروعا بحيث يفوق عدد النزلاء المائة… مرحاض واحد بلا صابون وبروائح تكتم الأنفاس، الخليط البشري الذي كانوا يدفعون به على مدار أربعة وعشرين ساعة كان بانوراميا بشكل مضحك، سكارى، وقتلة، وسلفيون، ولصوص “نترة” أفارقة من جنوب الصحراء… ولما كان يستحيل على المرء أن ينام بشكل طبيعي فقد كانوا يتقاطرون علي بعد أن يعلموا أن في غرفة الاحتفاظ وزير سابق ومحام، كنت استمع إلى الفعل المرتكب وأقدم الاستشارات المجانية، نعم كشيخ الطريقة كانوا يتحلقون حولي ويستمعون الي كما لو كنت عبد الله ابن تومرت أو عبد المومن ابن علي…
على العموم، انقضت مدة الخمسة عشر يوما ونقلت لقاضي التحقيق في قطب الإرهاب، فوجدته حائرا مرتبكا وهو الذي أصدر أمر الاحتفاظ بي في بوشوشة على الساعة الواحدة والنصف ليلا!!! دون ادنى وجه حق لأن جماعة السنة الثانية حقوق يعرفون أن الاحتفاظ من اختصاص النيابة وليس التحقيق، قلت له بحضور كوكبة كبيرة من زملائي المحامين “هاني جيتك يا رئيس صدر بطاقة إيداع خليني نمشي بالضوء للمرناقية ونحميك أنت تبقى تخدم على روحك” الأسئلة لم تتجاوز تاريخ حياتي الشخصي من النشأة إلى الدراسة إلى المقاومة وحرب إثنين وثمانين والتدريب الأمني والعسكري في الاتحاد السوفياتي وألمانيا الشرقية والصحافة والمحاماة… سأله محمود المهيري قائلا هل ستصدر بطاقة إيداع فأومأ برأسه إيجابا فرد عليه بأن ارجع لي إعلام نيابتي ولن أترافع ما دام قرار سجنه جاهز… طلبت من الزملاء أن يترافع اثنان منهم فقط في الإجراءات للتاريخ لأني مريض ومنهك وأريد الذهاب إلى السجن بسرعة… وبالفعل انتهى التحقيق عند الثانية والنصف بعد الظهر وتفرق المحامون ونزلت إلى “الجيول” (مكان الحجز) انتظر حتى الثامنة مساءا لتأتي ستافات “سيارات نقل المساجين” -سجن- المرناقية (رابحة).
كانت المسافة طويلة جدا ولم أكن أرى شيئا في الخارج حتى اعتقدت انهم أخدوني إلى الكاف أو باجة أو بنزرت، وإذا بهم ينزلونني بكل أدب في المرناقية، لتبدأ رحلة الإجراءات الإدارية للنزيل الجديد وتدوم أكثر من ساعة… وأقاد بعدها إلى الزنزانة ذات الثلاثة أمتار عرضا بخمسة طولا، بها شخصان ممددان تحت غطاء ازرق لا تظهر منهما غير العيون وبرود السلوك. غلقوا الأبواب وانصرفوا فقال لي رفيقا الشمبري (ماهر ودامينو) هذا فرشك وعندك جراية جديدة وزوز زور وغدوة تدوش ويجيك الحجام…
ارتميت على السرير الحديدي وانا اضحك وقلت لهما “هذا هاو موفمبيك ألاا صاحبي قدام اللي كنت فيه”.
وهناك بدأت رحلة أخرى سنعود إليها…
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.